strong>وائل عبد الفتاحإنه صراع مساحات. جمال مبارك عاد هذا الأسبوع ليستعيد «مساحته» في ترتيبات «الانتقال الآمن» للسلطة. وعمال 6 شركات ينامون على رصيف مجلس الشعب، الذي أصبح «مساحة» مقتطعة من مدينة يحكمها أصحاب البدلات السوداء. هذا هو الصراع الذي ينقل المصريين بالتدريج إلى التسييس

الرجل الغامض والانتقال الآمن



دماص تحوّلت من قرية إلى مدينة. معجزة تحقّقت على يد جمال مبارك. أعلنها وزير الإدارة المحلية في سرادق احتفال ضخم، استقبل فيه ابن الرئيس بالطبول والمزامير وقمصان مطبوع عليها «أهلاً بك يا جمال وبضيوفك الكرام». قمصان كأنها تردّ على قمصان ظهرت في استقبال محمد البرداعي في المحافظة نفسها.
هكذا عاد جمال مبارك بعد اختفاء كان تفسيره البسيط: صدمة البرادعي ومفاجأة مرض الأب. سببان كافيان للارتباك السياسي والشخصي. ماذا سيفعل ابن الرئيس في حالة التغيير؟ هل يدافع عن أمل ولو شحيحاً في البقاء تحت الأضواء لكي يحمي نفسه من الانتقام؟ أم يجتهد في صناعة ترتيبات «الهروب»؟
الخيال الشعبي انحاز لـ«الهروب»، وظهرت روايات متعددة يروي أصحابها عن ٣ زيارات لفرع بنك دولي شهير في ألمانيا وعن طائرات نقلت مقتنيات ثمينة إلى دبي ولندن. روايات فسّرت غياب «الرجل الغامض». لكنه ظهر، ووسط جيوش حراسة حوّلت محافظة الدقهلية (على دلتا النيل) إلى ثكنة عسكرية. الجديد فيها هو تحويل القرية/ المدينة إلى مسرح بلا جمهور تقريباً. لا صحافة ولا أهل البلد ولا حتى أعضاء الحزب الوطني. «جمال وفرقته» فقط، كما سخر رجل قرأ الخبر في صحف الصباح. وفرقته تتكوّن من وزراء ومسؤولين في الحزب وشباب مبتسم، ولا شيء سوى إعلان الوجود من جديد. وجود يرتبط بصناعة القرار، وكأنها زيارة من أجل إعلان على طريقة لويس التاسع عشر: «نحن الدولة... والدولة نحن».
جمال وفرقته لم يقدّموا شيئاً غير «القرارات»، والتطمين على صحة الرئيس وعودته إلى الجولات الداخلية فقط. وكأنّ ابن الرئيس لم يتعلّم شيئاً ولا تعلّم مدربوه السياسيون ولا حاشيته الشابة، التي اختارها بنفس عناية أبيه: كلما كنت متوسطاً اخترتك وقربتك وقتلت منافسيك الأقوى.
الحكايات عن شخصيات اختارها جمال مبارك لا تختلف كثيراً عن طريقة اختيار أبيه لمساعديه، كلهم يتمتعون بالولاء الشخصي. لا يملكون غيره تقريباً، وإن امتلكوا فإنهم يضعون الإمكانات في خدمة الولاء، حتى تذوب ولا يبقى غير الالتصاق بالرئيس.
هؤلاء لا يملكون قدرة على الإبداع. ويتحركون كما لو كانوا ملتصقين بصاحب السلطة. ليس لهم حضور فردي، ولا كيان خارج المساحات التي يتيحها القرب من السلطان.
ظهر جمال كأنّ مصر لم تتغير في الشهور الأخيرة. وهذا ليس دليل قوة. بل دليل ضعف قدرات. ماذا يفعل ابن الرئيس في حماية هذه الحشود الأمنية. ماذا لديه غير الغموض؟
جمال غامض. ليس غموضاً من النوع الفاتن. غموض المؤامرات الصغيرة. لم يعلن شيئاً عن طموحه السياسي، واعتمد فقط على حضور أبيه الخالد على الكرسي ليتسرب إلى الساحة السياسية، وعندما تسرّب لم يفعل شيئاً، لم يقتنص الفرصة ويصبح سياسياً حقيقياً.
لكنها خطوة ليست سهلة، أن تكون سياسياً وسط حاشية لا تتقن من السياسة إلا طبخات الحكم السابقة التجهيز. هذا يعني أنه حتى على مستويات كثيرة ليس لدى جمال مبارك من يقول له: لماذا تريد العمل بالسياسة وأنت شخصية لا تملك الانفتاح على الآخرين؟ لماذا تعمل في مجال لا يبدو عليك أنك أحببته يوماً ما؟
ليس لدى جمال مبارك من يقول له مخلصاً: إمّا أن تتعلم السياسة، وهي فنّ له أصول ومواهب، أو ترحل في صمت إلى عالم المال والبيزنس والعائلة.
بالتأكيد لن يسمع جمال مبارك هذه النصيحة لأن المنتفعين بوجوده كثر، ولا يزالون يسرّبون الكلام القديم جداً على أنّ جمال مبارك فرصة لمن يريد إنهاء حكم العسكر، وحماية مصر من الدولة الدينية.
ورقة قديمة حرقها ظهور البرادعي، وأمل تحرك قليلاً ليكون التغيير في قواعد اللعبة، وليس استبدال شخص بشخص، من العائلة نفسها التي تطمع في «وراثة الجمهورية».
حتى عقلاء النظام يعرفون أنّ «الانتقال الآمن» للسلطة لا يمكن أن يمر عبر جمال مبارك، وهذا ما لم تفهمه حاشية جمال مبارك، الذي لم يبتسم في حياته أمام الناس إلّا مرة أو مرتين، ولم يقل فكرة جديدة، ولم يقدّم نظرة متكاملة عن مستقبل مصر تقول إن لديه شيئاً خارج «صوبة العائلة» التي خرج منها.
قد يكون شخصاً لطيفاً، كما يردّد عدد كبير من أهل الإعلام أو الصحافة. كلّهم يتحدثون بالشكر عن لحظات قضوها في حضرة جمال واكتشفوا فيها مدى «رقّته وأدبه». لكن الأدب والرقة لا يكفيان لكي تكون سياسياً، فما بالك بأن تكون حاكماً لمصر.
لا يزال جمال مبارك يتحصّن بالغموض، ولم يبتعد خطوة واحدة عن النظام. لا يزال في الحضانة السياسية، يستغلّ وجود أبيه في السلطة ليتحرك، متخيّلاً أنّ زياراته للفلاحين تصنع قاعدة شعبية تمهّد له الخروج من شرنقة الغموض التي يمارس من داخلها السياسة منذ ٨ سنوات.
القاعدة الشعبية مليئة بالمنتفعين. وهذا ما لن يكتشفه جمال مبارك إلّا متأخراً، أو لن يكتشفه. سيخرج رجل غامض آخر، وسيكون هو جسر العبور الآمن للسلطة، كما يتخيّل عقلاء النظام، الذين تتردد أصداء نقاشاتهم في تسريبات عن قرب تعيين شخصية عسكرية في المكتب السياسي للحزب الوطني.
هذه الشخصية «الغامضة» ستظهر عندما يقرر الرئيس، أو يجبره أحد ما داخلياً أو خارجيّاً، على القرار. وهي خطوة استباقية قبل الفوضى، ومن أجل إعادة القبضة الحديدية بعدما انتشر المرض في القبضة القديمة.
الجميع في انتظار فك شفرات الغموض، بينما تنمو بقوة روح الاحتجاج وتتسرب في كتل اجتماعية عاشت نصف قرن من الصمت الدائم، لكنها تعاني وتصرخ وتهتف علناً وسراً: «الحقونا».
يلتقي في هذا من يحصل على ٣ جنيهات ونصف جنيه يومية والتاجر الذي يملك مليون جنيه. كلهم تحت المعاناة يشعرون بأزمة حادة وقلق على المستقبل.
النظام وحده للمرة الأولى من دون كتلة اجتماعية، يبحث عن قبضته ويتصارع حوله رجال الغموض.

الخوف على فرصة «التغيير»



ظهور محمد البرادعي على الساحة السياسية المصرية كمنافس على الرئاسة خلق حالة من الأمل بـ«التغيير»، وأحدث نقلة نوعية في الأفكار الساسية للعامّة، الذين يخشون ضياع الفرصة
عندما وصل إلى سن الخمسين قرّر الاستراحة في بلده. كهربائي سفن لفّ العالم وتزوّج روسية وألمانية والثالثة نسي جنسيتها. وقرر أن يقضي أيام «ما بعد الشقاوة» في مصر ليكوّن عائلة ويعود إلى أيام الصبا الجميلة.
رحلة معتادة. لكن الجديد في اكتشافات الرجل، الذي كان يتحدث بحرقة واضحة، أنه أدرك أنّ «الدنيا تغيّرت»، وفرصته الوحيدة في بلد الصبا هو البحث عن طريق إلى الجنّة.
«الجنّة»؟ وأجاب ببساطة: «اه». وشرح أنه يسير على خيط رفيع يخاف فيه من كل قرش حرام يدخل بيته. وأنّ ما يعصمه عن الخطأ هو انتظار مكان في الجنة. وما يلهمه الصبر هو أن «الله عادل لن يترك هؤلاء الذين حوّلوا حياة الناس في مصر إلى جحيم». الرجل له آراء في تبوير الأراضي الزراعية وسرقة الحقوق من الغلابة وارتفاع الأسعار الذي جعله يتراجع في المستوى الاجتماعي.
وهذا سر خوفه على مستقبل أولاده: «عايز ولادي يعيشوا محترمين. أنا عشت حياتي بالطول والعرض وعرفت أعدّيها بسلام لغاية دلوقتي». وتابع «كل إلي انا عاوزه إن البلد دي تتغير».
وهنا فسر على طريقته ظهور البرداعي: «حاسس إن البلد كلها مضطرة تدخل في دايرة مفروضة عليها، والناس كلها بتتحول حرامية غصب عنها، ومفيش حل الا راجل جاي من بره. ما دخلش الدايرة دي».
الحرقة هنا تحولت إلى مرارة، رغم أنه يتكلم عن الأمل في التغيير. هناك خوف حقيقي من ضياع فرصة البرادعي. هذا ما يُفهم من حديث الرجل، الذي ليس من هواة السياسة.
التغيير ليس موضوعاً سياسياً عند قطاعات ارتضت الإقامة في الهامش. إنه موضوع يتعلق بمستقبل الأبناء والأجيال التي لا بد أن تعيش في بلد محترم، أو بمعنى أدق بلد يجدون فيه التعليم والعلاج والعمل بشكل لا يمسّ الكرامة. وهذا ما لا يتحقق في نظام يقوم على الأنانية المفرطة. هذه أفكار بعيدة عن السياسة من الظاهر لكنها «سياسية» من الطراز الأول. تسييس الأحلام الشخصية أو الربط بين غياب أولويات الحياة المحترمة واختيار الحاكم والحكومة هو نقلة في التسييس الغائب عن مصر منذ أكثر من ٥٠ سنة. إنه وعي جديد يُدخل الملايين إلى مسرح السياسة، أو يضعها على باب المسرح بعد سنوات طويلة ظل فيها الناس ينظرون إلى الصراع على مقعد الرئاسة على أنه جولة من حرب «الآلهة» لا علاقة للشعب بها.
الجديد هنا هو تحول الاهتمام بالتغيير إلى هذه التفاصيل الصغيرة. والقدرة على الربط بين العثور على مقعد في مدرسة أو سرير في مستشفى، واختيار رئيس الجمهورية. نقلة نوعية تأخّرت في مصر طويلاً.

المصريّة الفصيحةفصاحة ليست مسيّسة، «اشهد اشهد يا رصيف... على اللي عملو فينا نظيف»... و«متقولش إيه أدتنا مصر... قول باعتنا حكومة مصر ...». وإلى آخر وصلة طويلة تقود فيها ميرفت رجال بشوارب، فلاحين جاؤوا خلفها من مدينتهم على دلتا النيل للمطالبة بالحق الضائع. فهم موظفو وعمال هيئة تحسين الأراضي، يحصلون على 3 جنيهات يومياً (أي 90 جنيهاً في الشهر بما يوازي 16 دولاراً). راتب لا يقدّم ولا يؤخّر، وخصوصاً بعد أن تقتطع منه نسبة ضمان اجتماعي. لكنهم عندما سألوا عن هذه المبالغ المقتطعة منذ 15 عاماً كان الرد: لا شيء لديكم عندنا.
أين أموالنا؟ من سرقها؟ وقبل كل شيء كيف يمكن الحياة بهذه الملاليم؟ أسئلة دفعت مدام ميرفت وصحبها إلى السفر والاعتصام المفتوح أمام مجلس الشعب، وهي «لن تعود قبل استعادة الحق». وتعبّر عن دهشتها: «لماذا لا يهتم أحد بنا ويناقش مشكلتنا، رغم أننا ننام في الشارع والناس يتفرّجون علينا؟ هل يتصوّرون أننا سعداء بهذه النومة؟ ألا يعرفون أننا نشدّ ملابسنا وأغطيتنا حتى لا تنكشف عوراتنا أو ينزاح الستر عنا».
لا تفقد مدام ميرفت الهدوء ولا تتحمس حماسةً زائدةً، تعرف حدود دفاعها عن حقها. سرها في الهدوء والثقة التي لا تعتمد على «وعي سياسي»، ولكن وعي بالحق الذي لن يضيع ما دام وراءه مطالب. مدام ميرفت صناعة «الحالة المصرية» في سنوات الاحتجاج، ورغم عدم انشغالها بالمطالب السياسية الكبرى، إلا أنها تتعجب من عدم اهتمام مسؤول أو وزير أو رئيس وزراء أو رئيس جمهورية بمعرفة، مجرد معرفة، المشكلة التي ينامون من أجلها على الرصيف.
وتندهش أكثر من اعتماد الحكومة مبدأ «تكبير الدماغ» في مواجهة مطالب الناس «الغلابة». وهي متحدثة لبقة في ما يتعلق بمطالبها، ومفاوضة تنتظر أي مسؤول وهي واثقة من إقناعه. محاربة من سلالة قديمة اندثرت في مصر، وقائدة وعي المطالب والاحتجاجات، هي حلقة وسطى بين «المواطن العادي» و«الناشط السياسي» وأقرب إلى الفلاح الفصيح الذي كان صوته يصل إلى آلهة الفراعنة ويتحول إلى سجلات الوعي الصغير في التعبير عن الشكاوى.