نيويورك ـ نزار عبودإسرائيل تستثمر أعمالها الوحشية بحق الأهالي الفلسطينيين الواقعين تحت احتلالها في تسويق أنظمتها الأمنية حول العالم. وهي تكسب من تلك المشاريع مليارات الدولارات سنوياً، ما بات يمثّل أحد ثلاثة مصادر أساسية لدخلها الضخم. هذا ما توصل إليه مدير «الحركة الإسرائيلية ضد هدم البيوت» جيف هالبار وطرحه في ندوة عقدها في نيويورك قرب الأمم المتحدة ناقش فيها نتائج حربي لبنان وغزة على المنطقة والعالم. فحذر من أنّ المحافظين الجدد مع اليمين الإسرائيلي المتطرف، لم يستسلموا للفشل، وهم يستهدفون بكلّ قواهم السياسية والاقتصادية والعسكرية والقانونية إعادة صياغة النظام العالمي، بما يتيح لدول الشمال المتحالفة ضد دول الجنوب تطبيق عقيدة الضاحية التدميرية من دون التعرض لمحاسبة قضائية.
وهالبار من أنشط المعارضين الإسرائيليين للاحتلال وممارساته التعسفية في الداخل والخارج، وحضر الندوة التي نظمتها منظمة غير حكومية تدعى «مجموعة العمل الإسرائيلية ـ الفلسطينية» ورعاها «اتحاد الشرق الأوسط للسلام»، مفكرون ودبلوماسيون وممثل عن الأمين العام للأمم المتحدة. طرح فيها هالبار مجموعة قضايا عن مشروعية إسرائيل في المنطقة وخططها الطويلة الأجل. وأثار أسئلة من نوع: هل رحل الفلسطينيون عام 1948 بأنفسهم أو طردهم اليهود من بيوتهم؟ وإذا كان نصف سكان المنطقة التي خصصت للدولة الإسرائيلية في قرار التقسيم كانوا من العرب وعددهم يزيد على 700 ألف نسمة، فكيف يمكن تحويل تلك القطعة من الأرض إلى دولة يهودية؟ وأي قانون يمنعهم من العودة لأنّهم ليسوا لاجئين بالمفهوم القانوني الدولي؟
يرى هالبار أنّ فكرة الدولتين ما هي إلا خدعة لتضييع الوقت ريثما يُجهَز على مشروع الدولة الفلسطينية نهائياً. فكرة «تباع لأولئك الذين يتحدثون عن السلام لتخفيف الضغط المعنوي عن إسرائيل». يضيف أنّ الفلسطينيين قبلوا حل الدولتين منذ عام 1988. لكن المنتصر في حرب 1967 «ما زال يعتقد أن بإمكانه، مستفيداً من سطوته العسكرية ومن حالة الضحية اليهودية، هزيمة إرادة ورغبة شعب في نيل حريته».
هالبار اليهودي الذي ولد في الولايات المتحدة عام 1946، يؤمن بأنّ إسرائيل أصبحت كياناًَ «أمنياً» يمارس التفرقة العنصرية حتى أبشع صورها. إنّه يرى أنّ الدولة الصهيونية ليست منزعجة من الاحتلال ولا من تكلفته الباهظة، بل على العكس، مستفيدة منه من كل الجوانب. فهي تتعامل مع الفلسطينيين على أساس أنهم «متمردون وإرهابيون وعصاة». وهذا يمنحها شرعية أمام القسم الشمالي من العالم. ذلك القسم المتحد في ما بينه ضد الجنوب على أساس عنصري. شمال لا يقاتل بعضه منذ الحرب العالمية الثانية. وضع تعريفه الخاص بالإرهاب الذي يعدّه صادراً عن الأفراد والمجموعات الشعبية فقط. ولقد نجحت الدول النافذة في الشمال في زرع هذه الفكرة في عقول الشعوب التي توافق على ما يقوله الإعلام من دون تدقيق. في هذا الإطار، استطاعت إسرائيل الإفلات من كل محاسبة لكونها «حكومة وليست تنظيماً». وهي «حكومة أمنية تحمي نفسها من الإرهاب كما تزعم، وكما يتقبلها العالم المتحضر».
وهنا نبّه هالبار إلى أنّ الحكومات والجيوش تقتل من المدنيين أضعافاً مضاعفة مما تقتل المنظمات المتمردة وحركات المقاومة. واقتبس في هذا الصدد من الكاتب دانيال راميل صاحب كتاب «الموت على يد الحكومة» أنّ عدد الأبرياء الذين قتلتهم الحكومات خلال القرن العشرين وحده يقارب 360 مليون نسمة، بينما لا يتجاوز عدد الذين قتلوا على يد المنظمات المتمردة 170 ألفاً. لكن غياب تعريف متفق عليه للإرهاب يجعل إسرائيل وغيرها تستفيد من نادي الشمال وتبيع خبراتها الأمنية للعالم. فهي تستخدم الأراضي المحتلة وأهاليها كـ«فئران للتجارب» على شتى أنواع الأسلحة والتكتيكات العسكرية، ثم تنتقل لتبيع هذه الخبرات في كل ساحات النزاع، بما في ذلك تدريب الجيش الأميركي نفسه على أساليب اكتسبتها من الحرب على الفلسطنيين. وبيع خبرتها في تطويع السكان ومراقبتهم يأتي ثاني أكبر صناعة إسرائيلية معدّة للتصدير. كذلك فإنّ إسرائيل أصبحت ثالث أكبر دولة مصدّرة للسلاح، منافسة لدول غربية كبرى مثل بريطانيا. وهي تأتي في الترتيب الثالث بعد الولايات المتحدة وروسيا متفوقة على الصين، ومرشحة اقتصادياً لنيل عضوية منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (أوسيد) التي تضم الدول الأغنى في العالم. أما صناعتها الأولى التي جعلت من اقتصادها محصناً من الركود فكانت الأحجار النفيسة، وعلى رأسها الماس المرتبط بالقتل والسلاح.
وحذر هالبار من أن صناعة إسرائيل «الأمنية» من خبرات عسكرية مدنية ومخابرات، لا تصدر للجيوش وحسب، بل إلى المنشآت المدنية، وباتت تتحكم بالكثير من المفاصل المعيشية العادية من دوائر الأمن العام في عدة دول، منها كندا. ففي العام الماضي وُقِّعت «اتفاقية التعاون الكندية الإسرائيلية للسلامة العامة»، اتفاقية منحت إسرائيل فعلياً إدارة السجون ومخافر الشرطة، فضلاً عن معابر الحدود.
ووظفت إسرائيل خبراتها في بناء جدار الفصل العنصري والحدود المكهربة مع دول الجوار ونقلتها إلى الولايات المتحدة. إذ تبني شركة «ألبرت سيستمز» الإسرائيلية جدار الحدود مع المكسيك بالتعاون مع شركة «بوينغ» الأميركية. كذلك وقع عمدة بلدية القدس الذي زار مدينة لوس أنجلوس الأميركية قبل أسابيع بصحبة وفد أمني كبير، عقداً ضخماً للإشراف على الأمن في مطار المدينة. أما مطار سخيبول الهولندي في أمستردام، وهو من أكثر مطارات أوروبا نشاطاً، فهو خاضع منذ وقت بعيد لإدارة شركة أمنية إسرائيلية.
وأطلقت إسرائيل حملة عالمية لوضع قوانين خاصة بقواعد الاشتباك في الحروب مع القوات «غير النظامية». هذه الحملة تعتمد على منظمات تابعة للمحافظين الجدد في الولايات المتحدة وتنظم مؤتمرات حقوقية في الجامعات. فرعت مؤتمرين سابقين في كلّ من لندن وباريس تحت اسم «لوفاير» وهناك مؤتمر ثالث مماثل يعقد في نيويورك. كانت الغاية منها «استخدام القانون كسلاح ضد دول بريئة مثل إسرائيل». وهنا يقول هالبار: «إذا كنا نستطيع تنظيف اسم إسرائيل وتحويلها إلى ضحية، فإننا نستطيع تطهير أي كان. في حرب غزة لم يكن هناك قوتان تتصارعان، وبالتالي لا تجوز تسميتها حرباً. وعندما نحلل شنّ حرب على أهالٍ أو داخل أحيائهم فإنهم يتحولون إلى الطرف الشرير».
ويرى هالبار أنّ الحروب الإسرائيلية المقبلة لن تستخدم فيها إسرائيل القنابل العنقودية والفوسفور الأبيض واليورانيوم المنضب وسلاح الدايم وحسب، بل أيضاً الحشرات الإلكترونية الدقيقة (بتقنية النانو) الفتاكة، وأقراص المناشير (جمع منشار) التي تسقط بالآلاف من الطائرات فتقطع كل شيء في طريقها، فضلاً عن الطائرات بدون طيار التي تقذف الصواريخ في الأماكن التي يصعب على الطائرات بلوغها. كلّ ذلك في الأماكن المأهولة كأهداف مشروعة.
وإذا كان هالبار لا يرى أن هناك حرباً خيضت في غزة، إلا أنّه يرى أنّ قوى المجمتع المدني على أشكالها منعت إنجاز المشروع الإسرائيلي المتمثل بإقامة «نظام فصل عنصري... وشطب الدولة الفلسطينية فعلياً عن الخريطة». مشروع «مستعدة السلطة الفلسطينية لقبوله، و(الرئيس حسني) مبارك في مصر مستعد لدعمه مع الإدارة الأميركية. كل شيء كان معداً بأن يوقع الجميع بموجب خطة أنابوليس في نهاية عهد جورج بوش. لكنّه فشل بسبب مقاومة المجتمع المدني».
وحسب رأيه، فإنّ القضية الفلسطينية باتت قضية عالمية. ففي زيارة قام بها لعاصمة كوريا الجنوبية، سيوول، شاهد تظاهرة ضخمة ضمت 50 ألف كوري متضامنة مع فلسطين. وهو يؤمن بأنّ هذه الظواهر يمكن أن تمنع الخطط، ما دام الشعب الفلسطيني متمسكاً بحقه.