من أكبر ملّاكي الأراضي في فلسطين، إلى «اللاشيء» في بلاد اللجوء، تلك هي حال أبناء تجمّع العِبّ في منطقة صور، الذين يعيشون فيه حياة شبه ـــ بدائية، محرومين أبسط حاجات الإنسان، ولا سيّما المياه، في ظل غياب أيّ مرجعية تُعنى بهم
سوزان هاشم
صعب، الوصول إلى «تجمّع العبّ» للّاجئين الفلسطينيّين، على الرغم من قربه من حاجز «أبو الأسود» بوابة منطقة صور وقراها. فحتّى جيران هذا التجمع، الذين يجهلون وجوده حتى، تعذّر عليهم إرشادنا إلى المكان، ما اضطرّنا إلى طلب المساعدة عبر الاتصال بأحد أبناء «أهل التجمّع أنفسهم»، لمساعدتنا على اكتشاف مكانه، والغوص في عباب مشاكله. هنا حيث أهله «عايشين أقل من المجتمعات العادية»، حسب ما تقول سميرة الغماز، معلّلة قولها، بأنه «حتى ماي متل العالم والناس ما في». فهذا التجمع، رغم مناهزة عمره الأربعين عاماً، لا يزال يفتقر حتى الآن إلى شبكة، أو حتى إلى بئر مياه، فتضطرّ سميرة وغيرها من أبناء هذا التجمع إلى نقل المياه على رؤوسهم من نهر يبعد قليلاً عنهم، أو إلى شراء «سيترنات» من المياه إذا دعت الحاجة، كما يعمد هؤلاء في فصل الشتاء، بحسب ما تشرح سميرة، إلى استغلال «نعمة الله» من المطر، فيجمعون ما يتساقط من مياه على سطوح منازلهم «الزينكو»، ويسلّطونها عبر أنابيب بلاستيكية على الخزانات لاستخدامها.
هكذا يعيش هؤلاء في حالة «شديدة التقشف»، فـ«هون نقطة الماي منعملها حساب»، تشرح أم عز الدين الهوشي، مردفةً أنهم في بعض الأحيان «ما منشطف بالشهر إلّا مرة واحدة أرض البيت، ومنغسل كل 15 يوم ثيابنا، حتى إنو أوقات منجمّع الجلي بالمطبخ عدة أيام»، وذلك بسبب تعذّر توفير المياه. أمّا الاستحمام، فهو «بالكيلة»، بعد أن تسخَّن المياه في الخارج على الحطب، إذ إن «الدوش» لا يعرف طريقاً إلى أيٍّ من منازل العبّ، حتى يومنا هذا.
الغرف في المنازل لا تفصل بينها سوى ستائر من الأقمشة
والجميع في هذا التجمّع يتجرع من كأس الحرمان عينها، «كل الشعب هون عايش حياة مأساة بمأساة»، تقول فاطمة الهوشي، التي تتقاسم وعائلة شقيق زوجها (سلفها)، سقف زينكو واحداً، إذ يبيت أفراد العائلة الـ12 في ثلاث غرف فقط في المنزل الواحد، بحيث كانت هذه الغرف كسائر منازل التجمع لا تفصل بعضها عن بعض سوى ستائر من الأقمشة، استُبدلت منذ 4 أعوام بجدران إسمنتية، وذلك ضمن مشروع المساعدات النرويجية، وليست فاطمة هي الوحيدة التي تتقاسم وعائلات أخرى منزلاً واحداً، بل إنّ جميع العائلات هنا تعيش الحال عينها، وخصوصاً أنه ليس بإمكان الفلسطيني في لبنان أن يضيف ولو حجراً واحداً من الباطون، لذلك يبدو رامي الهوشي المُقدِم على مشروع زواج مقتنعاً تماماً، بمنزله الزوجي، وهو عبارة عن غرفة واحدة، في منزل أهله، الذين يتقاسم معهم أيضاً مطبخاً وحمّاماً واحداً، وخصوصاً أنه كعامل مياوم في البساتين، يتعذّر عليه استئجار ولو غرفة صغيرة خارج التجمّع، علماً بأن معظم أبناء هذا التجمع، بحسب ما يشير إليه المسؤول في اللجان الشعبية أبو رامي الحسن، «يعملون في البساتين، عمّالاً مياومين، أو في تعبئة الفحم، وهذا الأمر لا يقتصر فقط على الرجال، بل يشمل النساء أيضاً»، ويحمّل الحسن وكالة الأونروا مسؤولية تردّي الأوضاع في هذا التجمع، «لكونها المكلّفة بمساعدة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وبغوثهم، ما يرتّب عليها مسؤولية توفير على الأقل، شبكة صرف صحي، وشبكة مياه في هذا التجمع، الغائبتَين عنه، كاشفاً أن الخدمات التي توفّر لأبنائه «هي جدّ ضئيلة، وتوزَّع مرة كل ثلاثة أشهر على الأكثر، وهي عبارة عن حصة تموينية تحتوي على بعض الحبوب والسكّر والزيت».
من جهته يصف مدير البرامج في مركز التنمية الإنسانية سامر مناع، «تجمع العب»، «بأكثر التجمعات فقراً وحرماناً، وهو منسيّ ومجهول»، معدّداً المشاكل التي يغرق فيها العب، ليس أهمّها، «غياب أيّ مرجعية مكلّفة بإدارة شؤونه، فالأونروا تعدّه خارج نطاق عملها، لكونه خارج المخيمات الفلسطينية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى بلدية الخرايب، وإن كان التجمع يتبع لعقاراتها، فهي تعدّ نفسها غير مسؤولة عن إدارة شؤون اللاجئين الفلسطينيين، لذلك يبقى التجمّع محروماً جميع أشكال التنمية. ويعاني معظم أبناء التجمع حالات عسر شديد، كما تسجّل نسبة عالية من التسرّب المدرسي في سن مبكرة بينهم. كما أن غياب المياه بكل أنواعها يعدّ إشارة خطيرة فيه، تؤثّر سلباً في مسألة النظافة العامة، كما أن توفيرها يرهق كاهل اللاجئ الفلسطيني بالأعباء المادية». ويوضح المناع أنّ «المركز يعتزم استحداث شبكة للمياه في التجمّع، بالتنسيق مع السفارة اليابانية، التي يسعى إلى الحصول على تمويل منها لإنجاز المشروع».
ولكن «شو ما بيعملولنا منضل مش مبسوطين، إلا لمّا نرجع على أرضنا»، تعلّق أم رامي الهوشي، وهي تحاول عبثاً حبس دموعها، التي انهمرت لدى إحضارها من علبة مخبّأة في إحدى زوايا المنزل الصغير عشرات الأوراق، التي يشير اصفرار لونها، إلى قِدَم عمرها، الذي يناهز 60 عاماً، أي قبل النكبة، تلك الأوراق التي ورثتها عن أجدادها، تبثت ملكيتهم لمئات الدونمات من الأراضي في فلسطين، وهي بمثابة كنز لها لا يقدّر بثمن رغم فقدانها حالياً أيّ قيمة مادية، ولكن تبقى «من ريحة الحبايب وريحة بلدي». هكذا تبدو أم رامي راضية بكل قسوة الحياة في هذا التجمّع، فـ«كلّو هيّن مقابل إنو الواحد ينحرم أرض بلادو».


يرى المسؤول في اللجان الشعبية أبو رامي الحسن «أنّ اللاجئين في تجمّع العبّ، يعيشون حياة ما قبل الحداثة، فالأونروا تكفّ يدها عن تقديم الحاجات الضرورية إليهم باعتبارهم خارج نطاق عملها، علماً بأن أجداد هؤلاء كانوا يُعدّون من أكبر الملّاكين في فلسطين، بيد أن النكبة حرمتهم هذا الإرث، بعدما هجّرَتهم إلى القرى الجنوبية الحدودية، لتمنعهم في ما بعد السلطة اللبنانية من السكن هناك، فلجأوا إلى شراء هذه الأرض، حيث التجمع حالياً لقربه من البساتين، التي يعملون فيها. ويبلغ عدد أبنائه حوالى 300 فرد يتقاسمون المأساة عينها».