وائل عبد الفتاح

عقاب الأمل



من أوحى للضابط بالفكرة؟ سؤال منطقي بعد قراءة تفاصيل البلاغ المقدم من الطبيب طه محمد عبد التواب إلى النائب العام. البلاغ يحمل قصة قد لا تدهش أحداً في مصر، لكنها في الحقيقة تستحق الدهشة.
ليس لأن القصة لم تحدث من قبل، أو أنها من كلاسيكيات العلاقة بين المواطن والدولة، ولكن لأنها تعبّر عن أن الدولة لا تزال مضطرّة إلى استخدام أسلحة منقرضة رغم تغيّر المناخ والظروف.
هذا هو المدهش في قصة الطبيب والضابط. الطبيب راوده الأمل مع ظهور البرادعي وشارك في وقفات احتجاجية من أجل جمع توكيلات تطالب بتغيير الدستور. هذا حق طبيعي. لكن ضابطاً أو اثنين من مباحث أمن الدولة فتحا خزنة الأساليب المنقرضة وأخرجا منها كل الأساليب المتوحشة.
قال الطبيب في بلاغه إن الضابط انهال عليه بألفاظ خادشة للحياء، ثم ضربه باليدين والقدمين، وبعدها أمر المخبرين بتجريده من ملابسه، وضربه مرة ثانية، واحتجزه مجرداً من ملابسه حتى صباح اليوم التالي، ثم ألقوا به في الشارع.
ربما لا يندهش أحد من أن هذا لا يزال يحدث في مصر. وأن أمن الدولة يتعامل كما لو أن المصريين رهينة أو أسرى النظام السياسي الحالي، ومن يخرج عنه أو يطالب بتغييره فهو مجرم يستحقّ العقاب الفوري.
وربما تصوّر الضابط أن حفلة التعذيب التي أقامها على شرف الطبيب المؤيد للبرادعي تصرّف طبيعي مع خارج عن النظام. وهذا هو المدهش. إن التعذيب لأسباب سياسية لا يزال أمراً عادياً في دولة تقول للعالم إنها ديموقراطية.
لكن في الدهاليز المرعبة لأمن الدولة، لا يزال أشباه «الزيني بركات» (رمز البطش في عصر المماليك) يعيشون ويمارسون الوحشية والتعذيب السادي من دون أن يرمش لهم جفن.
من أعطى الأوامر للضابط؟ من قال له إن من واجباته إجبار المواطن على الوقوف عارياً؟ الضابط مؤمن بأن المواطن عارٍ فعلاً من الحماية، وأن الدولة لن تعطي الحق لأحد بالاختلاف مع الحاكم أو الحكومة. لماذا لا تعلن مصر دولة من القرون الوسطى؟ ساعتها سنرتاح من صداع المطالبة بحقوق الشعوب المحترمة في التعبير والاختلاف. وسنرضخ لسلطة ضباط متعجرفين ينتمون جميعاً إلى تنظيم كهنوتي، ينظرون بترفع ويتصورون أنهم يحمون البلد، وأن واجبنا أن نقبل الصفعة تلو الصفعة، وأن نخلع ملابسنا انتظاراً لعقابهم لنا على الأمل في مستقبل من دون نظام مبارك.
قرار النائب العام بفتح التحقيق حول واقعة التعذيب مهم وحيوي في تلك اللحظة الحساسة. والأهم الوصول إلى طرف الخيط الذي يربط فيه هؤلاء الضباط القادمون من مستوطنات التعذيب في القرون الوسطى.
كيف لا يشعر المصريون بأنهم عراة أمام ضباط لا رادع لهم؟ كيف يبرر الضابط قراره بالتعذيب عندما يختلي بنفسه؟ هل تدرب على قتل كل مشاعره وعلى أن من الطبيعي إهانة الناس ما دام يملك سلطة أو يحتمي بالبدلة الميري؟
ما فعله الضابط لا يعني سوى الشعور بالتوتر والانفعال. استخدام العنف بهذه الطريقة المنقرضة دليل ضعف لا قوة. بالتأكيد، هذه الفصيلة لا تقرأ التاريخ ولا تعرف شيئاً عن مواثيق حقوق الإنسان.
جريمة التعذيب لا تسقط بالتقادم، ويطارد مرتكبها في كل أنحاء العالم مثل المجرم الهارب الذي لن يجد مكاناً إلا في مخبأ لا تصل إليه عيون الساهرين على حقوق الإنسان.
وإذا كان يعتقد أن الدولة في مصر تحمي جلاديها، فهذا وهم لأن الدولة لا بد أن تقدم بين حين وآخر قرابين ليتصور العالم أنها دولة محترمة في حقوق الإنسان تعاقب عشاق العنف.
ترى الدولة أن ضباط التعذيب حالات فردية، وهذا من المفروض أن يخيف الضباط. لكن يبدو أن هناك ما يقوي قلوبهم؟
ما هو سر قوة القلب التي اتخد فيها الضباط قرار ضرب الطبيب وتجريده من ملابسه؟
هؤلاء يخضعون لتدريبات نفسية وغسيل دماغ لا يرون فيه العالم من حولهم ليعرفوا أنهم أدوات من السهل حرقها أو من الطبيعي أن تكون في مقدمة الذين ينزل عليهم العقاب إذا تغيّرت الظروف.
ولن يكون هناك أقوى من تشاوشيسكو في رومانيا، الذي حكم بلاده بالحديد والنار، وتصوّر أنه خالد هو وزوجته. ووجد نفسه معلقاً في الشوارع انتقاماً من المقهورين والمقموعين، بعد إعدامه رمياً بالرصاص.
هل يتلقى هؤلاء الضباط دورات تدريبية يتعلمون فيها أن المعارضين أعداء الوطن؟ هل هم بهذه العقلية الصغيرة أو ضيق الأفق الذي لا يجعلهم يرون التغيرات في العالم ويرون ما يحدث في مصر؟
هذه العقلية أقل بكثير من عسكري الأمن المركزي (أدّى دوره أحمد زكي) في فيلم «البريء» (تأليف وحيد حامد وإخراج عاطف الطيب). على الأقل العسكري لم يتعلّم ولم ير الدنيا ولم يجد من يفتح له نوافذ العقل. لكن، كيف يجد الضابط مبرراً في تربيته أو عقله أو أخلاقه لضرب مواطن وتعريته لأنه اختلف مع النظام السياسي؟ هناك فكرة أخرى يعتمد عليها الضابط في قوة قلبه، وهي أن المجتمع حتى الآن لا يرى في التعذيب جريمة كبرى. يطالب المجتمع بالحق السياسي في اختيار الرئيس والحكومة، ولا ينتفض من تجريد مواطن ملابسه وضربه في مكتب المباحث.
هناك قبول ما بأن الضرب ضريبة الاختلاف مع النظام. هذه عقلية عبيد يقبلون بالعقاب على التمرد.
العبيد يمكنهم الغضب والصراخ، لكنهم لا يستطيعون التغيير، لأن التغيير مرتبط بإيمان حقيقي أن التعبير عن الرأي من الحقوق الأولية للإنسان.
هذا الإيمان يحتاج إلى نقلة نوعية في العقلية السياسية ترى معها أن التعذيب جريمة كبرى لا يمكن السكوت عنها.
وفي هذا انتقال بالحركة السياسية إلى أفق حضاري مختلف عن فهم السياسة على أنها مجرد آهات غضب أو صرخات جوع في مواجهة السلطة.
يحتاج المجتمع إلى أخلاق سياسية جديدة تجعله يتألم جماعياً من التعذيب، ويعتبره جريمة لا تغتفر. هل يمكن أن يتطور الوعي السياسي لينتفض المجتمع بكل رموزه ليقول لن نقبل بالحياة في بلد يتعذب فيه شخص وتسلب فيه كرامته بمنتهى السهولة؟

شماتة المقهورين



مع وفاة شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي، خرجت مصطلحات شماتة مفزعة، تدل على القهر الذي وصل إليه المجتمع من النظام وكل ما يمثّله من رموز
«عقبال الباقي». تردّد التعليق كثيراً على خبر رحيل شيخ الأزهر الدكتور سيد طنطاوي. تعليق مفزع يعبر عن شماتة غريبة في الموت. والشماتة من الممنوعات أو المحرمات في الثقافة الشعبية، فهي صفة الجبان أو الضعيف الذي يريد أن ينتقم من خصمه أو عدوه في لحظة ضعف كبيرة يمكن أن تمر على الجميع. وهذا هو المفزع. الشماتة هي انتقام الضعفاء الذين يشعرون أنهم بلا حيلة في مواجهة قوى جبّارة. الشماتة قوة سوداء يملكها من تملّكته مشاعر القهر وسيطرت عليه وفقد إيمانه بالنجاة، إلا بتدخل قوة عليا.
هنا يتحوّل الموت أو المرض إلى إشارة تأييد من السماء، يرسلها إلى ملايين الضعفاء الذين يعلنون فرحتهم ويشعرون ببعض العدل في انتصار القوى العليا على القوى القاهرة.
مشاعر المقهورين تسير في اتجاه الانتقام بلا عقل. والشماتة انتقام سلبي وسلمي، عكس انتقام الغاضبين في «ثورات الرعاع» التي تقود فيها المشاعر المقموعة إلى حرق كل شيء، كما حدث في انتفاضة الخبز (١٩٧٧) وهوجة عساكر الأمن المركزي (١٩٨٦).
القمع طويل الأمد يقود الناس في مصر إلى انتقام العاجزين، وهذا ما يفسر الشماتة في الموت. إنها شماتة في السلطة والشيخوخة الحاكمة. وشيخ الأزهر بالنسبة إلى البعض جزء من السلطة. وفي هذا اختصار كبير يدفع ثمنه الشيخ بالطبع، لأن الناس لن يتذكروا سوى أنه كان فقيه السلطان أو صانع الوجه الديني للنظام. ستمحو الذاكرة القريبة جهود الشيخ في نشر الروح المعتدلة، مقابل موجات التحريم الثقيلة. وستبقى له صناعة فتاوى التبرير والتمرير لكل ما يراه الرئيس الذي يعيّنه في المنصب. وهذه لعنة السلطة التي تحرق الجوانب المضيئة في المجتمع المصري.
الشهوة المفرطة في السلطة قهرت عموم الناس ودفعتهم إلى استخراج الطاقات السوداء، التي لا ترى سوى الوجه القبيح والمظلم والكريه. كذلك فإنها تحوّل المحيطين بهذه السلطة إلى خدم لا إلى شخصيات فاعلة وذكية.
هذه واحدة من أدوات الهدم التي يقوم بها النظام المتسلط في قيم المجتمع. الارتباط بالنظام يحوّل الموظفين والمسؤولين إلى حرس للنظام. ولهذا، فإن ما يبقى من الرئيس السابق لمجلس الشعب الدكتور رفعت المحجوب، الذي اغتيل في التسعينيات، هو قمعه للمعارضة وصراعاته مع بقية الحاشية بشأن موقعه على رأس السلطة التشريعية أو طموحه في خطوات أكبر.
وما سيبقى من رئيس مجلس الشعب الحالي الدكتور أحمد فتحي سرور لن تكون قيمته العلمية في مجال القانون الجنائي، بل وجوده في كتيبة طهاة النظام، وستبقى لافتة تهنئته السيدة سوزان مبارك بمناسبة عيد الأم.

«ملك الحكومة»شباب يعيشون في الخارج ويحلمون بمصر مختلفة. «يريدون أن تعود مصر إلى العالم بعدما سقطت في بئر القرون الوسطى»، هذا ما رواه أحد الذين شهدوا ظهور البرادعي في مدرجات ويمبلي في لندن. هؤلاء حاولوا الإجابة عن السؤال الصعب: كيف ستحدث عملية انتقال السلطة؟ الإجابات المطروحة كانت ترى أن العملية كلها ستتم في القصر. وأن الصراع سيكون بين أجنحة تنحاز إلى انتقال هادئ لإيصال شخص يُطمئن المؤسسات الصلبة في الدولة، وبين أجنحة أخرى تريد انتقالاً يدخل جماعة رجال الأعمال في تركيبة السلطة.
الإجابات كلها دارت حول صراع في القصر برعاية من القوى الدولية. لم يكن المجتمع في الحسبان على الإطلاق. المجتمع لن يخرج عن موقعه القديم: متفرج على صراع الآلهة خلف شرفات القصر. مجتمع خامل يردد مقولات مثل «أنا واقف في ملك الحكومة».
وهذه المقولة أكبر عقبة للتغيير في مصر. مقولة موروثة من زمن كان كل شيءٍ ملكاً لمن يحكم، لا للمجتمع. الحاكم في مصر أهم من البلد كله. حارس المبنى سأل: هل سيُستقبل الرئيس مبارك في المطار؟ لم ينتظر سوى همهمة ليواصل بعدها: «لازم الناس تطلع تستقبله».
وعي سياسي مفاجئ هبط على الحارس الذي يتعامل مع كل الموضوعات الكبرى بلامبالاة ساخرة. سخرية لا ضحك فيها. هذه السخرية تنم عن طيبة غير صدامية. إنها استسلام لقانون الحياة من وجهة نظره. وهذا ما يفسر إيمانه الكبير بأن «الناس لازم تستقبل الرئيس مبارك».
«استقبال بالملايين لا بالمئات كما حدث مع البرادعي»، ضحك الرجل الأربعيني وهو يسمع للحارس. وتابع: «هل سيقود الاستقبال مسؤولون؟ أم قيادات شعبية ستظهر فجأة؟».
سؤال غريب لم يجد رداً، ولا قدرة على تصور غرفة العمليات التي يمكنها أن تجهز الآن للاستقبال الذي توقّعه الحارس. وكاد الحوار أن يمتد في سيره الطبيعي عن أحوال البلد. وهي حوارات مملّة من حرب مرتضى ـــــ شوبير إلى عودة رجل الأعمال رامي لكح إلى رفع الحصانة عن طلعت السادات، وإعادة محاكمة هشام طلعت مصطفى. كلها حكايات يمكن اختصارها في أنها «حكايات النهايات». ويمكن أيضاً متابعة خيوطها عند الدولة سواء في صناعة أبطالها وتقديمهم إلى الصفوف الأولى أمام الشاشات أو في الأصابع الخفيّة التي تحرك الأحداث وتدفعها في اتجاه واحد.
كل الحكايات تنتهي عند يد النظام وأصابعه.