Strong>ليال حدادمنزل، طريق رملية، مياه على الطريق، سيارة بيضاء، ولدان حافيان، منزل آخر. لحظة، ليس منزلاً آخر، ربما كان متجر سمانة، لا أدري، لا أذكر. أحاول أن أتذكّر الأزقة الداخلية لمخيّم شاتيلا، لا أقدر. آخر مرة زرت المخيمّ كانت عام 2008، أثناء إحياء ذكرى المجزرة الشهيرة. ومن يومها لم أزر أي مخيّم فلسطيني. عادت فجأة الفوبيا التي كانت تسكنني أيام الطفولة. ماذا سأفعل في المخيّم؟ قد أمشي في الشوارع، أتبسّم للجالسين على جانبَي الطريق، متعاطفة. وقد أواسيهم بعبارة «ستتحرّر فلسطين قريباً وتعودون إليها». ماذا لو أراد هؤلاء البقاء في لبنان؟ من يحقّ له انتزاعهم من أرض ولدوا وعاشوا فيها؟ ثمّ ماذا لو كانت فكرتي هذه دعوة للتوطين؟
مجرّد التفكير بموضوع اللاجئين الفلسطينيين والمخيمات، يصيبني بصداع قوي. لا أفهم الكثير في محادثات السلام ــــ وهي أساساً لا تهمّني ــــ ولا أفهم في القوانين التي تحرّم على الفلسطيني العمل، ولا تلك التي تمنعه من التملّك. وحتماً لا أفهم شيئاً مما يقوله نعمة الله أبي نصر عن المخيمّات. ولكن من القليل الذي أفهمه عن فلسطين وعن اللاجئين أستطيع استنتاج ما يلي: لن يحلم أولادي بالعمل كأطباء أو مهندسين، أو ممثلين، أو محامين، أو معلّمين في المدارس... ستسعى ابنتي للزواج من لبناني للتخلّص من لائحة الممنوعات التي تحاصرها. أما ابني، فمن عمر الثامنة عشرة، سيقف أمام أبواب السفارات حالماً بهوية جديدة، يحملها إلى جانب بطاقته الزرقاء... والخضراء إن تحقّقت أمنيات أبي نصر.

فن الخطابات

«خلصنا بقى، خلّي الفلسطيني ينضبّ ويتهذّب» لا أدري إن كان «البطل» القادم من سبعينيات القرن الماضي و«تنظيماتها» قد أدرك أن الحرب اللبنانية انتهت. انزعج المقاتل الشرس، من الرصاص المتطاير في عين الحلوة، وانزعج من كلام أدلى به سلطان أبو العينين (وهذا الأخير قصة أخرى). ولكن لا عتب. صراحةً، فانتهاء الحرب، أنهى أحلام الرجل. كان «ملكاً» على مملكة ممتدة من جونية إلى الأشرفية، وجاء «السلام الأهلي»، ليقصيه عن الساحة. وما استحضار خطاب الماضي، إلا محاولة فاشلة للعودة إلى أيام «اعرف عدوّك... الفلسطيني عدوّك». يبحث صديقنا بيأس عن عدوّ جديد، ولكن في زمن المصالحة مع السوريين، وفي زمن «حكومة الوحدة الوطنية»، لا يبقى غير اللاجئ ومخيماته.
ملاحظة: في الأسابيع المقبلة، توقّعوا المزيد من التصريحات المشابهة، الرجل لن ييأس...

فن الحوار

تتكلّم الإعلامية اللبنانية المعتكفة في كلّ شيء: العنف ضدّ المرأة، ضرورة إقرار قانون لحمايتها، أهمية وجودها في سوق العمل، دورها الأساسي في بناء مجتمع متقدّم. وتصمت، تتردّد قبل إكمال حديثها وتقول: «أنا مع حق إعطاء المرأة اللبنانية جنسيتها لأولادها». تفاجئك الشهيدة الحية، بموقفها التقدّمي، ولكن ليس لوقت طويل «باستثناء اللبنانية المتزوّجة من فلسطيني»! حقاً؟ تغيّر المحطة تلقائياً، وبعد ربع ساعة تعود إلى ذاك البرنامج الأسبوعي الذي كان مخصصاً ليوم المرأة العالمي، لتسمع محاضرة الإعلامية نفسها وهي تستفيض شارحة الكارثة التي ستصيب لبنان إذا أعطت خمسة آلاف لبنانية متزوجة من فلسطيني جنسيتها لزوجها وأولادها. يستمرّ الكلام، يبدو مقدّم البرنامج وضيوفه مدهوشين بخطاب هذه السيدة. تغيّر المحطة مجدداً... ليذهب الجميع إلى الجحيم، الأرجح أن أولادك لن يرغبوا بحمل جنسية يختزن حاملوها هذا الكمّ من العنصرية والغباء.

فن الأحلام

غداً تتحرّر فلسطين... غداً نعود. يقول ذلك بكثير من الثقة، ثمّ يصمت. لا يعطي تفاصيل أكثر ولا يخبرني ماذا سنفعل بعد تحرير الأرض. يكتفي بالقول ساخراً، «إذا ذهبنا إلى هناك فلن تتمكّني من العمل، فممنوع على اللبناني أن يعمل أو يتملّك أو... يتنفّس في فلسطين»... ويبتسم.
غداً تتحرّر فلسطين... غداً نعود. يقول إنّ البلد بعد التحرير لن تكون كما قبلها. العالم كلّه لن يكون هو نفسه. ستختفي المنظمات التي بنت ثرواتها من القضية، وستظهر قيادات جديدة شابة، تعمل على بناء مجتمع مدني علماني. طبعاً يتمتم أشياء أخرى، عن الذين تعاملوا مع الاحتلال وهؤلاء الذي روّجوا للتطبيع، ولكنّها أشياء لا أفهمها... كلّ ما أفهمه هو أنّ فلسطين ستتحرّر غداً، هو قال ذلك، وغالباً ما يصدق.