مدينة منسيّة خلف العناوينفراس خطيب
تحاول القدس المحتلة استعادة رونقها بعد مواجهات الأسبوع الماضي، حين تحوّلت إلى ساحة معارك بين أهلها وشرطة الاحتلال. الهدوء عاد إليها، لكنّ وصفة المواجهة المقبلة حاضرة بكل تفاصيلها، والمسألة ليست ما إذا هي مواجهة (قصيرة أو طويلة) مستقبلاً، السؤال متى ستكون ومتى ستهدأ في ظل أوضاع راهنة تضيّق يوماً بعد يوم على أهلها المنسيّين من وراء العناوين؟
المارّ في شوارع القدس الشرقية، وبين أسوار البلدة القديمة، يشعر مثل كل مرة يزور المكان بأنّ الهواء ثقيل. ولعل العجوز الجالس إلى جانب عربة الترمس والفول، يدرك بأنّ الماضي، رغم ما حمله من مآسٍ في مدينته المقدسة، «كان أفضل». ها هو جالس إلى جانب الشارع، بين وادي الجوز وباب العمود، ينتظر «فرجاً ما». يهدأ قليلاً، ويدلّل نفسه بسيجارة تخفّف عنه وطأة البرد الذي تحمله النسمات الآتية من الغرب. يقول بصوت مقدسيّ اللكنة: «إنّ هذا المكان، رغم احتلاله العناوين، هو بالأصل منسيٌ». ويبدأ قصة المدينة الكبيرة من حاله المتواضعة، فصاحب العربة لديه «أبناء لا يعرفون أين سيسكنون، وماذا سيعملون أيضاً. والمستقبل لا يبشّر بالخير». أيّ خير فيما الدولة تنفق الملايين لتوطين المهاجرين والمستوطنين، وتحارب الضعفاء على قطعة الحياة. تترك كل حقوق الإنسان وتتمسك بحق «اليهود في القدس».
من يعدّد ما تحياه المدينة يبدأ من شيء ولا ينتهي بشيء: فعلاوة على الاستيطان والتهويد والجدار وسحب الهويات، ثمة خدمات أساسية لا ينالها الفلسطينيون: أكثر من ألف غرفة تعليمية ينقص البلدة القديمة، والجهاز التعليمي معطوب بشهادة اختصاصيين. دولة الاحتلال تنفق ملايين الشواكل على حراسة المستوطنين في البلدة القديمة وسلوان والشيخ جرّاح، ولا توفر الحد الأدنى من العيش الكريم لأهل الأماكن نفسها.
«جاري اليهودي لا يخرج من البيت من دون حراسة. أولاده أيضاً يعودون من المدرسة بحراسة مشدّدة»، قال أحد سكان البلدة القديمة متألماً.
ويرى أحد قدماء المقدسيين «إنّ يهود العالم ينفقون الملايين على اليهود في القدس. انظر ماذا يفعلون. لقد حفروها كلها بتمويل يهود أميركيين. أين العرب؟ يريدون التفاوض؟».
مقهى عمره 120 عاماً، وهو يبدو كذلك أيضاً. الحوانيت من حوله مغلقة، لكنّ الدخان الأبيض المتصاعد من بابه المخفيّ في أحد الممرات يشدّ ما بقي من زائرين، ومن سيّاح «شجعان» يسيرون في أروقة باب العمود بعد الساعة السادسة مساءً. الجالسون كلّهم رجال. تراهم من باب المقهى يحدّقون في نقطة واحدة لا تراها أنت من الباب، وتعتقد لبرهة أنّها شاشة تلفزيون. حين تدخل، لا يلتفت إليك أحد. تراهم يحدّقون في الحائط، لا شاشة هناك. مجرد فراغ يكسره صاحب المكان المتنقل بين النراجيل، يدندن أغنيات لحّنها غريب.
«لا تعتقد بأننا عاطلون من العمل»، يقول أحد الرجال هناك: «نحن أصحاب محال تجارية فارغة، لا عمل لدينا. نتركها ونواسي بعضنا بعضاً هنا. العاطلون لا يملكون حتى ثمن نفَس النرجيلة». وعاد ليدخن، ويرتشف القهوة الثقيلة، حتى اندلعت الانتفاضة حول سؤال «هل ستكون هناك انتفاضة ثالثة في هذا المكان؟».
الناس يتحدثون كثيراً عن هذا السؤال وحيثياته، لكنّ أحداً لا يستطيع تحديد ملامح معنى الانتفاضة. إنها تعبير لا يمكن توقّعه، فالناس لم يتوقعوا اندلاع انتفاضة الحجر الأولى ولا الانتفاضة الثانية اللتين ولدتا من قلب الناس من دون تخطيطهم، من صرختهم وخروجهم عن صمتهم. لقد وضعوا حداً لعبارات «الاحتلال المتنور» (كما ادّعى اسحاق شامير قبيل الانتفاضة الأولى). لكن الفرق بين ما كان وما هو اليوم أن اللحمة الفلسطينية كانت أقوى في الانتفاضتين، والمرجعية موحدة نوعاً ما، والمطالب واضحة للعيان. يقول شاب يعمل في أحد المطاعم: «نحن اليوم لا نملك الرأي نفسه. نعيش الحالة نفسها، لكن لكل واحد طريقته. السلطة سلطتان، والشعب شعبان، وهذه هي حال الشارع».
النقاش لا يهدأ، والإجابة لا تحسم، ليترك السؤال مفتوحاً على مصراعيه أمام الحدث. انتفاضة ثالثة؟ لا أحد يعلم.
عندما يخيّم المساء على أسوار البلدة القديمة، لا يبقى من اللوحة سوى حجارتها البادية وناسها المتعبين. تمرّ من هناك ولا ترى الملامح؛ أضواء صفراء تكسرها الحجارة، وأخرى مظلمة لا ضوء في أولها ولا آخرها. قد تجد شبّاناً يجلسون على أحد الأدراج الضيّقة المؤدية إلى أحد البيوت، وعناصر من حرس الحدود يجتمعون قرب مبنى لا تعرفه. مستوطن يخرج صامتاً بين حارسيه، ومسنّ فلسطيني يجلس على باب أحد المقاهي التي تفتح أبوابها حتى ساعات متأخرة (الثامنة ربما)، يحدّق بما تعيشه المدينة المقدّسة. كل شيء مغلق، حتى المسجد الأقصى أبوابه موصودة، أنت تمشي بين الزقاقات، تماماً كمن يحاول أن يفك رموز المتاهة. كل شيء يستوقفك للتفكير، لكنّك تمضي من حجر إلى آخر، من قصة إلى أخرى. السير ليلاً بين أسوار البلدة القديمة يشبه السير بين ملامح لوحة انتزعت روحها، مشهد يكتسب رونقه من القدم، حزين، وتسأل أنت عن هذا الحزن، «عروس عروبتكم»، فلا تجدها إلا في القصائد والشعارات المنصوبة. البلدة متعبة، وأقل ما يقال إنّها ليست عروس أحد.
القدس الغربية تبدو على أحسن حالها. كثر فيها المتديّنون اليهود. تمرّ من أحياء يسكنها متديّنون فقط. وتشعر هناك بأنّ شيئاً ما ثقيلاً على كاهلك. أجواء لا تريح، والهواء مشحون مثل كل شيء هناك. تخرج أكثر، وترى غرب القدس يعيش حياة لا يمكن مقارنتها بشرقها. إنها مدينة أخرى، مكان آخر، يسكنه ناس لا يشعرون بأنهم يحتلون شعباً آخر.


إخطارات هدموقال مسؤول ملف القدس في حركة «فتح» حاتم عبد القادر إن السلطات الإسرائيلية سلمت الإخطارات لمواطنين من عائلة كريشان تمهيداً لهدم منازلهم في الفترة المقبلة. وأعرب عن خشيته من أن تكون هذه الإنذارات مقدمة لتنفيذ «مخطط استيطاني» كان قد أعلن عنه سابقاً في المنطقة بهدف بناء «مستوطنة البوابة الشرقية» في منطقة حساسة تشكل مثلثاً بين رأس خميس وشعفاط وبلدة عناتا المقدسية.
وأضاف عبد القادر إن «المخطط يسعى إلى بناء 2000 وحدة سكنية، ستمثّل الفاصل بين تلك المناطق ومدينة القدس، ما يعني الفصل التام بين سكان المنطقة ومدينتهم». وأشار إلى أن هذه العائلات «البدوية»، التي تملك منازل في المنطقة منذ ما يزيد على 60 عاماً، بنت بيوتها على الأرض وتعيش فيها هي وعائلاتها.
(يو بي آي)