يمكن القول إن سلام فيّاض رجل السياسات الملتبسة، في ظل هيمنته على المشهد الداخلي في الضفة الغربية وتفرّغه للخطط الاقتصادية، بطريقة تذكّر برئيس الحكومة اللبنانية السابق فؤاد السنيورة، مع الفارق أن خطط فيّاض مرتبطة بمشروعه «الاستقلالي البديل»، مع ما فيه من مكافحة لـ«العنف» بمفهومه الإسرائيلي، بما يضمن استمرار تدفّق أموال المانحين
حسام كنفاني
يطلّ رئيس حكومة تصريف الأعمال الفلسطينية، سلام فيّاض، اليوم من على منبر مؤتمر هرتسليا للأمن القومي الإسرائيلي. الخطوة بحدّ ذاتها ليست سابقة فلسطينية، وخصوصاً بالنسبة إلى فيّاض، الذي سبق أن شارك في المؤتمر في كانون الثاني 2007، قبل تولّيه رئاسة الحكومة الفلسطينية. حينها، كانت المفاوضات مع حكومة إيهود أولمرت لا تزال قائمة. وربما هذا يبرّر ما قاله، في حضور زعيم تكتّل «الليكود» في ذلك الحين بنيامين نتنياهو، «أسعى من أجل روابط سياسية قوية مع إسرائيل، وأسعى من أجل روابط اقتصادية قوية بين دولتَي إسرائيل وفلسطين المستقلتين».
غير أن الوضع اليوم مختلف تماماً، ولا سيما في ظل مقاطعة السلطة اللقاءات مع المسؤولين الإسرائيليين، ووضعها مجموعة من الشروط لعودة مثل هذه الاجتماعات. في ظل هذا الوضع، من غير الممكن تبرير ظهور فيّاض على منبر مخصّص لبحث «الأمن القومي الإسرائيلي». وقد فصّل المنظّمون هذا الأمن في إطار إعدادهم للمؤتمر ووزعوه على عناوين، وضعوا العملية السياسيّة في نهايتها. وبحسب جدول الأعمال، فإن التهديدات للأمن القومي الإسرائيلي تتوزّع على الشكل الآتي: «المشروع النووي الإيراني، ومكانة إسرائيل في الساحة الإعلامية العالمية، والأزمة الاقتصادية العالمية، والتوجهات الاستراتيجية في أوروبا والولايات المتحدة وإسرائيل، والعملية السياسية في الشرق الأوسط».
مثل هذه العناوين والوضع التفاوضي القائم، لم تمنع مشاركة سلام فيّاض، الذي من المقرّر أن يقدّم ورقة للبحث في المؤتمر. الورقة لا شك ستتمحور حول العملية السياسيّة و«العيش المشترك» بين الإسرائيليين والفلسطينيين. غير أن مشاركة رئيس حكومة تصريف الأعمال في مؤتمر يحمل مثل هذه العناوين، تعدّ رسائل في اتجاهات قد لا ترغب السلطة في توجيهها، ولا سيما بالنسبة إلى إيران، التي تعدّها إسرائيل «الخطر الوجودي الأول».
وإذا وضعنا خرق فياض لفكرة التواصل الإسرائيلي الفلسطيني جانباً، فكيف يمكنه أن يكون مستشاراً للأمن القومي الإسرائيلي، حتى لو أراد الإضاءة عليه من جانب درء الخطر المقبل من الشرق والجنوب، عبر السماح بإقامة دولة فلسطينية؟
لكن في كل الأحوال، من غير المسموح أن يكون سياسي فلسطيني، وخصوصاً في ظروف العملية السياسيّة الحاليّة، ناصحاً أو مرشداً لمسار الأمن القومي الإسرائيلي، حتى وإن كان تحت عنوان «قيام الدولة الفلسطينية» وفي ظلّ «حريّة تعبير مطلقة». فما سيقال، حتى وإن كان مغايراً لما تريده إسرائيل، سيوضع تحت مظلة المصلحة الإسرائيلية العليا.
خطّة فيّاض تتماهى مع فكرة الدولة المؤقتة والمشروع الإسرائيلي للإدارة المدنيّة
ويمكن طرح سؤال آخر عن مدى تناغم فيّاض مع سياسة السلطة الفلسطينية، أو مدى صدق السلطة عموماً مع الشعارات التي ترفعها. فإذا كانت اللقاءات الإسرائيلية الفلسطينية محظورة، فكيف يمكن أن تفسّر رام الله مشاركة فيّاض في مثل هذا المؤتمر، ولقاءه شخصيّات إسرائيلية على أعلى مستوى، وفي مقدّمهم وزير الدفاع إيهود باراك، الذي تصادفت كلمته في اليوم نفسه لكلمة فيّاض.
وفيّاض اليوم لا يمثّل نفسه، كما كانت عليه الحال في عام 2007، بل يحضر مؤتمر هرتسليا بصفته رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، وبالتالي من غير الممكن أن تكون المشاركة من دون ضوء أخضر من رئيسها محمود عبّاس. ضوء أخضر يعني بدء التخلّي عن شروط اللقاءات، التي يُسقطها أبو مازن الواحد تلو الآخر في إطار تدريجي غير مباشر. لقاءات فياض أمس في «مؤتمر الأمن القومي الإسرائيلي» هي أحد تجلّياتها.
أما إذا كانت المشاركة من دون موافقة مسبقة، فتلك مصيبة أعظم، تؤكّد أن فيّاض يغرّد وحيداً خارج سرب السياسة الفلسطينية العامة خدمة لمشروعه الخاص الذي أعلنه قبل فترة، والقائم على تهيئة الأرضية لقيام الدولة الفلسطينية خلال عامين.
وفي الحالتين، فإن وجود فيّاض في هرتسليا، سواء بموافقة السلطة أو من دونها، يصبّ في خانة تمايز رئيس حكومة تصريف الأعمال عمّا عداه من الساسة الفلسطينيين. تمايز يعبّر عنه في التوجّه الذي يتبنّاه لإرساء أسس «الدولة الفلسطينية» بناءً على مفهوم يتناقض مع القضية الفلسطينية عموماً، إذ يقوم على أساس أن العنف هو المشكلة. وها هو يقرّ، في كلمته أمام مؤتمر «دافوس» يوم الجمعة الماضي، بأهميّة «التوافق الأمني» بين سلطة رام الله وغزّة، على اعتبار ذلك أهم من التوافق السياسي، ليتفاخر بـ«وقف الهجمات على إسرائيل» في غزة، وقد عدّ ذلك مكسباً ينبغي الاستفادة منه.
خطّة فياض، التي تركّز على بناء المؤسسات باعتبارها البنى التحتية للدولة الفلسطينية، تحاول تحويل القضيّة الفلسطينية إلى مسائل هامشيّة على غرار الوزارات والمصانع، التي ينشغل رئيس حكومة تصريف الأعمال بتدشينها على مدى أيام الأسبوع.
فكرة فيّاض تقوم على لجوء الفلسطينيين إلى بناء المؤسسات لتقديمها إلى المجتمع الدولي على اعتبارها دليلاً على كفاءة الشعب الفلسطيني وقدرته على إدارة شؤونه بنفسه.
على هذا العنوان يقوم جهد سلام فيّاض. ورغم المحتوى المبهر الذي يسعى إلى إظهاره، إلا أن عنوان فياض يبدو غريباً عن جوهر القضية، الذي لا يقوم على فكرة الكفاءة أو المؤسسات، بقدر ما هو على الحقوق المشروعة لشعب تحت الاحتلال، والنهب المستمر للأراضي والبناء الاستيطاني غير المدرج في خطة فيّاض.
رئيس حكومة تصريف الأعمال يحاول ركوب موجة الاستياء الشعبي لاحتوائها ومنع تفاقمها
الأنكى من ذلك، أن مثل هذا الفحوى يستهوي المستوى السياسي الإسرائيلي، الذي تهمّه فكرة بناء مؤسسات السلطة، وخصوصاً الأمنية كما يفعل سلام فيّاض اليوم، لتكون ضامنة لأمن الدولة العبريّة. مشروع يتماهى إلى حدّ كبير مع فكرة الإدارة المدنية التي كانت تطرحها إسرائيل للأراضي الفلسطينية، وما الاعتراض على مشروع فيّاض إلا لتحسّب الإسرائيليين من وجود «بند سرّي» ينص على إعلان الدولة من جانب واحد.
لكن حتى إذا كان وجود هذا البند صحيحاً، فإن تطبيق الخطة لا يتعدى قيام الدولة ذات الحدود المؤقتة، باعتبار أنه لا موافقة إسرائيلية على الترسيم ولا على تسليم المعابر الحدودية، لتبقى مثل هذه الدولة، لو تم الإعلان عنها، بمثابة حكم ذاتي فلسطيني لا يتمتع بأي نوع من السيادة البرية والبحرية والجويّة.
على هذه الأسس تقوم خطة سلام فيّاض، التي يحاول تلوينها بين الحين والآخر، لمراعاة الأجواء الحامية في الضفة الغربية، ولا سيما بعد عملية الاغتيال الأخيرة لثلاثة من كوادر «فتح» في نابلس. عملية أثارت قلق فيّاض، ليس حزناً على الشهداء، بل لما أحدثته من تململ في أوساط قادة الجناح العسكري للحركة، الذين سبق أن نسّق عمليات وقف مطاردة الاحتلال لهم، في مقابل إلقاء سلاحهم.
تململ انعكس ارتفاعاً في الأصوات المطالبة بالعودة عن التنسيق الأمني مع جيش الاحتلال واستعادة زخم المقاومة في الضفة الغربية، وهو ما يخشاه فياض لما يحمله من مخاطر على «بناه التحتيّة». ومع عدم قدرته على التخفيف من هذا التوتر، ولا سيما في ظل انسداد أفق العملية السياسية، حاول فيّاض ركوب الموجة الشعبية بأسلوبه الخاص، حين ترأس حفلة إحراق منتجات المستوطنات الإسرائيلية، وتوجّهه لمواساة عائلات الشهداء الثلاثة في نابلس، إضافة إلى تثمينة للحركات الاحتجاجية الأسبوعية في بلعين ونعلين والمعصرة.
وهدف فيّاض من هذه الإجراءات إلى محاولة تطويق الحركة الاحتجاجية، وضبطها والحؤول دون تطورها ورسم سقف متدنّ لحركتها. سقف فياض لا يخرج عن الاحتجاجات الأسبوعية على الجدار. أما أن تتحوّل إلى حرق إطارات وقطع طرق ومواجهات مباشرة مع قوات الاحتلال، فهذا بالنسبة إليه خطّ أحمر.
مثل هذا الانفجار هو أكثر ما يخشاه فيّاض، إذ إنه يأخذ القضيّة نحو مشروع استقلالي آخر يتجاوز مشروعه «الحضاري»، الذي لا يعترف بأي حركة احتجاجية تتخطى المسيرات السلميّة وعزف الغيتار أمام الجنود، وقد يقبل على مضض بإلقاء بعض الحجارة.
«حضاريّة» سلام فيّاض هذه قادته إلى هرتسليا بذريعة مخاطبة المجتمع الإسرائيلي مباشرة، متجاهلاً أن أي تظاهرة أو مواجهة في رام الله قادرة على توجيه رسائل إلى هذا المجتمع تفوق بأطنان ما قد يقوله فيّاض من كلام. فالتجارب مع الإسرائيليين أرست معادلة تقوم على التهديد كوسيلة لإعلاء أصوات «اليسار» المطالب بالانسحاب، على عكس ما يقوم به فيّاض وأبو مازن، اللذان من الممكن أن يكونا آباء الصعود اليميني الحالي في الدولة العبريّة.


قالوا فيه- وصفه الرئيس الأميركي جورج بوش، قائلاً: «إنه رفيق جيد».
- وصفه نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني أيالون قائلاً: «إنه شخصية تتميز بالوجاهة في الغرب، ويرونه بمثابة الشخص الذي يتحدث لغتهم، والثقة اللامحدودة التي حصل عليها من الأميركيين هي التي منحته القوة».
- وصفه مدير البنك الدولي في غزة والضفة الغربية نيغيل روبرتس قائلاً: «أكنّ له احتراماً عظيماً باعتباره وزيراً شجاعاً ومسؤولاً».
واليوم يتمتّع فيّاض بالدعم الأوروبي المطلق، فهم يرون أنه الضمانة لمرور أموال الدول المانحة.