Strong>وائل عبد الفتاحتعيش مصر في غمرة فرحة الانتصار التاريخي للفريق القومي. انتصار يضيء على عصر المعجزات المصريّة، والتحوّل نحو صناعة الهويّات الجديدة، التي يكون أبطالَها لاعبو كرة القدم، فيما يعمد سياسيّون إلى استنساخ نماذج مبتورة لتجارب ديموقراطيّة

سيادة الخرافة وفاشية الغوغاء



ليست صدفةً غالباً أن يظهر الأخَوان مبارك في كل مناسبة رياضية. وبجوار منتخب كرة القدم. وفي ذروة انتظار النصر.
علاء مختلف. يشجّع النادي الإسماعيلي (فريق كبير لكنه بعيد عن استقطاب القمّة بين الفريقين التقليديّين: الأهلي والزمالك). ويظهر حتى في المباريات الصغيرة.
جمال يظهر غالباً في المباريات المصيرية. ونجح في توظيف شغفه القديم في خدمة حضور سياسي مميّز.
التوظيف لا يريد للمباراة أن تتوقّف. يستدعي أشواطها. ويسير خلف شحناتها. العَلم يرفعه الناس في الشوارع ويقبّله اللاعبون قبلة شبق كأنه لقاء أول مرة بعد فراق عاطفي أو كأنها لحظة تحرير أرض عزيزة.
الأشواط تستمر بقوة، وهدير الملاعب يتصاعد لإعادة تعريف موقع مصر بالنسبة إلى العالم. اللعب لا ينتهي مع الشوطين. يتحوّل إلى وقود هوية.
علاء وجمال معاً «ظاهرة» تصاعدت بالتزامن مع تحولات مهمة أدركت فيها الأنظمة الفاشلة أو العاجزة أو ذات الخيال السياسي المحدود أنها تحتاج إلى صناعة هويّات جديدة ونسج روابط بينها وبين الشعوب المرهقة من سنوات ما بعد الاستعمار.
الشعوب أُرهقت من أنظمة فاشلة لا تريد الرحيل، تنفجر شهوتها بسلطة أبدية تتوارث معها المواقع والمصالح.
هذه الأنظمة لم تعد عسكرية تماماً، لكنها لا تزال تفكّر في العقليات العسكرية.
كذلك لم تصبح مدنيّة، ولا تستطيع التفكير في هوية قائمة على «صناعة الحياة» لا «كراهية الآخر». هوية المدينة لا القبيلة.
بعد التحرر من الاستعمار صنعت أنظمة التحرر هوية شعوبها على خط النار، بطبيعة موجّهة ضد عدو جاهز (إسرائيل ومن خلفها أميركا والغرب).
هوية عروبة وإسلام خفيف مع لمسة يسارية، تستهلك عواطف الرعاية الاجتماعية والمساواة بمعناها الأخلاقي لا السياسي.
الآن لم يعد العداء لإسرائيل على رأس أجندة الأنظمة الحاكمة، التي تحتاج في هذه اللحظات إلى «تصنيع» هويّة جديدة، مبنيّة هذه المرة على ولع بالرياضة، وخصوصاً كرة القدم. ملاعب الكرة هي مصانع الهويّات الجديدة. والأنظمة لم تتحرك بعيداً عن المربع العسكري، هي لا تزال تبحث عن عدو.
ذهاب الأنظمة إلى الهوية المصنوعة بالرياضة عصريّ إلى حد كبير، لكنها كالعادة عصرية ناقصة النمو. ابنة «رغبات» سريعة لا «تاريخ» لها بعيداً عن العصابية والعرقية والعنصرية الموجودة في القبيلة بقيمها النبيلة.
الفريق الرياضي جيش للقبيلة، تذوب فيه المشاعر وتقال فيه الأشعار. أعضاء الفريق هم أبطال في حد ذاتهم. رموز اكتمال الذكورة.
الرموز والأبطال والإعلام هي أدوات صناعة الهوية، لكنها في العالم كله نقلت الهويات من العداوة الحربية إلى اللعب.
وهنا لا اعتراف باللعب. الرياضة تصنع الهوية لكن بالموديل العسكري نفسه، الذي يقوم على فاشية تلغي الآخر وتعدّ الفريق الوطني جيش الدفاع عن الوجود، لا مجرد فريق يلعب ومن المحتمل أن يكسب أو يخسر.
الرهان واحد. المكسب مثل الخسارة ينتهي ويتجدّد لأن هناك مباراة قادمة وثأراً في الملعب. الأنظمة الفاشلة وحدها تحوّل اللعب إلى حرب، بينما العالم كله يحوّل الحرب إلى لعب. والثأر في الملعب يشعل حرباً لا نهاية لها.
هكذا تبدو الوطنيات الجديدة في مصر والعالم العربي فاشية كما كانت من قبل. لا تريد أن تكسب الاخر. ولكن تلغيه وتدمره وتحوّله إلى لا شيء.
عقليات لا تقبل الخسارة، وتعدّها إهانة للذكورة الوطنية.
هكذا من الطبيعي أن ترى الجزائر أنّ هزيمتها الضخمة من مصر مؤامرة اشترى فيها المصريون الحكم، كما عدّ المصريون هزيمتهم في الخرطوم موقعة حربية تعرّضوا فيها للخيانة.
عقليات فاشية. تنتعش مع أفكار إنتاج الكراهية. تبني الأنظمة الفاشلة روابطها مع الشعوب على أساس قبلي وحربي. هذه هي الوطنية الجديدة التي ترتبط بظاهرة الأخوَين مبارك في الملعب.
الأخَوان مبارك على اختلاف شخصية كلّ منهما عاشقان للعبة. لكنه عشق موظف. يتحقّق به الطموح السياسي في أن تصبح عائلة مبارك، هي عائلة الرئيس الحالي والقادم.
الأخَوان مبارك يقودان جماهير الدفاع عن مصر في ملاعب الكرة. هي ليست صدفة إذن. كما أنّها ليست صدفة أن ينتصر فريق مستقر تقريباً منذ ست سنوات في ظل نظام مستمر منذ ٣٠ سنة.
«هذه هي المعجزة المصرية». معجزة صدّرت «الهوية» إلى العالم العربي، وها هي تستورد منهم هويّات كراهية.
البروباغندا الشعبية تردّد ما يقوله المدرب المصري حسن شحاته وفرقة مساعديه: «نفوز بتوفيق الله». وهذه نوعية مبتكرة من النرجسية الذكورية. لماذا يصطفيك الله بالدعم ما دام المنافس هو الآخر «مسلم»؟
إنه الفخر الضروري في حروب القبائل. نحن أفضل وكفى؟
لماذا رفع مساعد المدرب المصحف الشريف في وجه الكاميرا يوم الفوز على الجزائر؟ هل لعب الله مع مصر وترك الجزائر؟
فاشيّة ترى بعين واحدة. توظّف القوى الخرافية لسبك الهوية الجديدة. اقتربت الكاميرا من المدرب وهو يقول «حبيبي يا رسول الله». وهنا صرخ المذيع ملتقطاً حس الكرامة الصوفية «إنه فريق الدعاء والسجدة»، لم يقل إنه فريق الفراعنة. تحدّث فقط عن البركة، وألغى الموهبة والكفاءة بصرخة حماسة. وهو يقيم الهوية الجديدة على فكرة رضى الله عن الفريق والنظام والبركة تعمّ أبعد من ذلك بكثير، حين تكتمل فرحة الشعب بالأخوين لحظة سجدة النصر.
الشعور بالتوفيق من السماء موجود في الرياضة، لكن أن يتحوّل هذا إلى وعي تعاد صياغة الهوية من حوله ليصبح الفريق المصري هو فريق الساجدين، عدّه بعض المسيحيين إهانة مباشرة، وطالبوا بوقف تدخل الدين في الرياضة.
المعجزة المصرية في كرة القدم مربكة بالضبط كما هي معجزة نظام مبارك. والأقرب فيها سيادة الخرافة وفاشية الغوغاء.

صانعو البهجة



مع فوز الفريق المصري ببطولة كأس أفريقيا، ظهر صانع جديد للبهجة، اللاعب «جدّو» الذي تحوّل إلى رمز جديد للهويّة في مصر
ها هو صانع جديد للبهجة. الناس في مصر اكتشفوا قبل سنوات بهجتهم في أبو تريكة الساحر الهارب من الظروف القاسية إلى نجومية لم يكن يحلم عقله بها، لكنّ جسده يكاد يطير كلما حقّق انتصاراً يعبر به إلى انتصار آخر.
أبو تريكة ظل لسنوات الصانع الوحيد للبهجة الجماعية، أو المحاولة الناجحة الكبيرة في مقاومة حالة الموت بالحياة التي نعيشها منذ سنوات طويلة، وتدفعنا إلى اكتئاب جماعي.
البهجة مشروع حياة، أُضيف إليه جدّو بلدغته التي أدخلت مصر تاريخ كرة القدم، التي يعدّها البعض تفاهة وأفيون المقموعين.
لا يمكن النظر إليها هذه النظرة المتعالية السخيفة التي أدمنها المثقفون في مصر سنوات طويلة، وقارنوا فيها بين العقول والأقدام.
كرة القدم هي اللعب. هي الرغبة في التحرّر من كل القوانين والروتين والعلاقات المعقّدة للعمل والذوبان في قانون اللعبة والإثارة والمهارة والانفعال والانحياز لطرف لا ينتهي الانتصار عليه، أو هزمه بكارثة مثل الحروب والاستعمار.
اللعب هو نجاة البشرية من آلامها ومآسيها الكبرى. وفي اللعب عقل ومهارة ومجهود بشري وطاقات يمكنها أن تشق السماء وتخترق الأرض.
من هذا اللعب خرجت بهجة المصريين، وللمفارقة من بيوت فقيرة لم تنل حظّها من توزيع الغنائم في عصر مبارك.
جدّو مثل أبو تريكة، ساحر خارجٌ من بيوت وشوارع منسيّة. قريته أصبحت معروفه باسمه، هو الشاب الذي سار فقط وراء غواية اللعب.
الشهرة سهلة وربما قصيرة العمر، والثروة أسهل، لكنّ القدرة على صناعة البهجة لحظةٌ لا تأتي بطريقة منتظمة.
وخروج البهجة من بيت صغير في «حوش عيسى» إشارة وعلامة على أن هناك سداً عالياً يمنع البهجة وصنّاعها من اكتشاف طاقات منسيّة.
علامات البهجة تأتي بالصدفة، لكنها ليست غائبة. وتعابير مستهلكة مثل «مصر ولّادة»، فيها شيء كبير من الحقيقة ومعها أن هناك من يحارب الموهبة ويترك المساحة فقط لأنصاف المواهب وأرباعها.
لم يكن انتصار كرة القدم تاريخيّاً فقط، كان لحظة مهمّة في الإفلات من أعداء البهجة. لحظة قصيرة لكنّها تعبّر عن الرغبة في الفرح الجماعي.
إنها لدغة جدّو، اللاعب الذي يعيد سِيَرَ هدّافين كبار من أبو جريشة والشاذلي إلى الخطيب وحسام حسن وأبو تريكة.
كلهم خرجوا من عائلات عادية. واخترقوا الحاجز الصلب بمهارة وصدفة تاريخية.
لدغة جدّو إعلان عن شيء منسيّ في مصر. إعلان مبهج وصلت مشاعره الدافئة تحت كل هذا الجليد، في اللحظة التي مر فيها جدّو ومال وقذف الكرة إلى شبكة الأرقام القياسيّة.

فيروس النقل السياسيلكنهم جميعاً يحملون الفيروس الذي كان وراء أزمات رئيس الحكومة أحمد نظيف في الفترة الأخيرة. نظيف ليس سياسياً، قد تكون السياسة الوحيدة التي تعلمها، منذ أن أصبح وزيراً بالصدفة، هي الحفاظ على مقعده أطول فترة ممكنة.
لكنه ليس أكثر من سكرتير للرئيس. سكرتير محاصر بطواقم سكرتارية متصارعة. لكنها تعرف حدودها وتعرف أن الأمور كلها في يد شخص واحد فقط.
نظيف التقط فيروساً خطراً جداً يسيطر على المسؤولين في مرحلة ما بعد جمال مبارك. ظهور جمال مبارك ارتبط بمحاولة تجديد الحاشية، التي أتت بصحبة الابن الطموح بعدما أنهى مرحلة الحضانة في رعاية مستشاري الأب. هؤلاء تسللوا الى دوائر الحكم ومعهم فيروس خطر جداً. فيروس قديم عرفته مصر من أولى محاولات النهضة، وهو نقل الموديلات السياسية من دون الإيمان القوي بها.
الأجيال القديمة ارتبط فيها نقل موديل الليبرالية مثلاً بوجود سياسيين لديهم مشروع استقلال وطني.
حتى مع نقل موديل الاشتراكية كانت هناك مشروعية الثورة والتحرر. لكن مع جيل جمال مبارك تحوّل الفيروس الى درجة معقدة جداً، لأن حملة الفيروس بلا كفاءة ولا مشروعية ولا مشروع سياسي.
هم أبناء المؤامرة. ارتبطوا بدخول جمال مبارك السياسة من الابواب الخلفية وعرفوا السياسة من هذه الزاوية الضيقة.
بعضهم تطور فعلاً، وفي مقدمتهم جمال مبارك الذي تتاح له فرص لا يحلم بها أكثر عشاق السياسة أو الطامحين الى الحكم. ومن الطبيعي أن يتعلم شيئاً أو يلتقط خبرة طائرة هنا أو هناك.
لكن مع الفيروس تفسد كل المحاولات. هم ينقلون موديلاً سياسياً بالتجزئة. مثلاً، أعلن الدكتور نظيف خبر زواجه رسمياً.
الخبر استفز من تعوّدوا أنظمة حكومية شمولية. أخبار الحياة الشخصية للزعماء و الحكام من الأسرار الحربية. لكن نظيف رأى أن من حق المواطنين أن يعرفوا كل شيء عن حاكمهم. وطبيعي جداً في أنظمة ديموقراطية أن يعرف المجتمع كل تاريخ الحاكم القديم من وضعه الاجتماعي وذمته المالية الى تقارير حالته الصحية.
انتقى الدكتور نظيف هذا الشكل واقتطعه من سياق ديموقراطي كامل. كما أن رئيس الحكومة الذي يكشف أخباره للعموم لا يتعالى على الناس في كوارثهم ويهرب منهم بعد أقل من ٥ دقائق، كما حدث في العريش.
نظيف حامل فيروس «الموديل الناقص». وإعلانه بدا مضحكاً، كشخص يمسك بمقود سيارة فقط يديره في الهواء ويبتسم وهو يدعو الناس لأن يركبوا معه السيارة.