الانقلابات ليست غريبة أبداً عن التاريخ العراقي، لا بل إنها من أبرز المحطات التي كتبت سطوره. اليوم، يتباهى حكام البلد المحتل، بأنّهم أرسوا نظاماً ديموقراطياً يستحيل معه حصول انقلاب جديد. لكن اليوميات العراقية تكذّب هذا الكلام، إذ يعرف العراقيون أنّ الانقلاب أسهل ما يكون، شرط نيله موافقة أميركية، مباشرة أو غير مباشرة
بغداد ــ زيد الزبيدي
تطمئن أوساط سياسية وقيادات أمنية وعسكرية عراقية إلى عدم إمكان حدوث انقلاب عسكري في البلاد. تسوق في سبيل ذلك مجموعة من المعطيات: النظام اليوم «ديموقراطي»، و«الشعب هو الذي يحكم عبر الانتخابات». كذلك فإنّ «الجيش الحالي مبنيّ على أسس مهنية، وليس كالسابق». حتى إن وزير الداخلية جواد البولاني أكد أنّ قوات وزارته قادرة على سحق أي محاولة انقلابية، فيما «تحدّى» رئيس الحكومة نوري المالكي البعثيين بتنفيذ انقلاب، وكأنّ البعثيين هم الوحيدون في الساحة.
واللافت أنّ جميع هذه الطمأنات تتفادى الإشارة إلى أنّ مصدر الأمان الأهم الذي يحول دون قدرة أحد على تنفيذ انقلاب عسكري، هو الولايات المتحدة، لكونها حامية النظام الحالي، وقوة احتلال، أو على الأقل قوة حماية أجنبية بموجب الاتفاقية الأمنية الموقعة بين واشنطن وبغداد في 2008، وهي التي تمتلك القدرة على الأرض لإمرار انقلاب عسكري، أو لقمع أي ثورة أو محاولة انقلابية.
وبحسب مراقبين سياسيين، فإنّ طمأنات حكام بغداد ليست أكثر من مبالغات، لأن نظام الحكم الحالي ليس أقوى من أي نظام سابق، بل هو الأضعف من كل الأنظمة التي عرفها العراق منذ تأسيسه. ويتذكر العراقيون أحداثاً ليست بعيدة، منها أنّ النظام الملكي كان معتدّاً بقوته الداخلية، وبقوة علاقاته مع الغرب ومتانتها، وخصوصاً بسبب عضويته في حلف بغداد «السنتو»، ما دفع رئيس الوزراء آنذاك، نوري السعيد، إلى ترديد أهزوجته الشهيرة «دار السيد مأمونة»، التي أعقبتها ثورة 14 تموز 1958، وقيام النظام الجمهوري.
ويدرك من عاصر تلك الفترة، أو حتى قرأ عنها، أنّ القوة العسكرية التي قامت بالثورة في تلك الحقبة، لم تكن كبيرة، ولا تسليحها كان جيداً. حتى إن بعض وحداتها التي دخلت بغداد، كانت تفتقر إلى العتاد، ما اضطرها إلى الاستعانة بقوة «الشرطة السيارة» لتزويدها الذخيرة.
دعمت واشنطن انقلاب 1963 و1968 وحالت دونه قبل احتلال العراق في 2003
ورغم التأييد الشعبي لحكم عبد الكريم قاسم، والدعم السوفياتي له، إلا أن نظامه سرعان ما عانى جملة مشاكل، أبرزها الخلاف بينه وبين الحزب الشيوعي، ما دفع بقاسم إلى توجيه ضربات قوية للشيوعيين وأنصارهم، وتهميش القوى التقدمية عسكرياً. وجاء انقلاب 8 شباط، المدعوم أميركياً، ليطيح نظامه. ولم تجدِ المقاومة الشعبية العزلاء من السلاح آنذاك، أمام قوة الطيران والدروع والمشاة المسلَّحين من جهات خارجية، وكان ما كان من مجازر.
الأهم في الموضوع هو أنّ الدعم الخارجي، الأميركي والعربي، أطفأ الضوء الأخضر الذي فتحه لانقلابيّي 8 شباط، وسلّمه لعبد السلام عارف والقوميين المدعومين من مصر، التي أصبحت اللاعب الرئيسي في العراق في تلك الحقبة، إلى أن استجدّت ظروف ضعُف معها نظام الحكم، وكان لا بد من استبداله خشية سقوطه بيد اليسار، وخصوصاً بعد هزيمة 1967، واتساع رقعة القاعدة اليسارية في العراق.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن واشنطن أعطت الضوء الأخضر للبعثيين والناصريين، ثم أعطت زمام الأمور للبعثيين وحرسهم القومي. وعندما شعرت بالحاجة إلى التهدئة، أخرجت البعثيين، وسلّمت مقاليد الأمور للقوميين المدعومين من مصر، مبقيةً خيوط اللعبة بين يديها. وبعد احتلال العراق عام 2003، منحت الولايات المتحدة الضوء الأخضر لليبراليين والإسلاميين هذه المرة، ثم أعطت زمام الأمور للإسلاميين وميليشياتهم.
ومن مفارقات الحركات الانقلابية العراقية، أنّ حركة «رئيس العرفاء»، حسن سريع، كانت قاب قوسين أو أدنى من النصر في محاولة انقلاب عام 1963، وهو لم يكن ضابطاً في الجيش، بينما فشلت الحركة الانقلابية التي قادها عارف عبد الرزاق في أيلول 1965، رغم أنه كان رئيساً للجمهورية بالوكالة «لسفر الرئيس عبد السلام عارف إلى المغرب»، ورئيساً للوزراء، ووزيراً للدفاع، وقائداً للقوة الجوية.
ويرى مراقبون أنّ سبب فشل عارف عبد الرزاق يعود إلى أن مصر ـــــ جمال عبد الناصر، أرادت أن تنتزع بعض خيوط اللعبة في العراق من يد السيد الأميركي الذي تعاونت معه في انقلاب 8 شباط. إلا أنّ عارف عبد الرزاق، الذي كان يتولى كل المناصب الرئيسية، لم يجد حوله من يخالف قواعد اللعبة، فهرب بطيارته إلى مصر، بمجرد عودة عبد السلام عارف إلى بلاد الرافدين.
ولعلّ ما يثير الاستغراب أن يحصل بعد ذلك انقلاب 1968، الذي أعاد البعثيين إلى الحكم، من دون مقاومة. ولم يكن لدى جناح «البكر ـــــ صدام» سوى 76 عضواً، فيما انضوت غالبية البعثيين تحت قيادة الجناح السوري، وخصوصاً بعدما قررت القيادة القومية عام 1963 حلّ القيادة القطرية في العراق، والإشراف على التنظيم مباشرة.
ورغم القبضة الحديدية التي استخدمها صدّام حسين، حصلت محاولات عدة للانقلاب عليه، من داخل حزبه وخارجه، معظمها أُجهض بوشايات من أجهزة استخبارات عربية وغربية، وكان آخرها قبل الغزو عام 2003، عندما أبلغ (الرئيس الحالي) جلال الطالباني ضبّاطاً كانوا يحاولون تنفيذ الانقلاب، بأنّ القوات الأميركية ستقصف أي قوة تتحرّك باتجاه بغداد، ما يؤكد أنّ الولايات المتحدة لم تكن تريد الانقلاب على حكم صدام حسين، بل احتلال البلاد خصوصاً.
وفي السياق، يرى كثر أنّ الذين يقولون باستحالة قيام انقلاب في العراق حالياً، بحجة قوة ميليشياتهم المسلّحة، سيجدون هذه الميليشيات «تتبخّر» بمجرد إعلان الاستيلاء على المنطقة الخضراء، عندما تغضّ الإدارة الأميركية نظرها. وأثبتت التفجيرات التي تضرب وسط بغداد ومحيط المنطقة الخضراء أنّ هذه المهمة ليست مستحيلة أمام أي قوة عسكرية لها تأثير على حرّاس البوابات الرئيسية، لأنه عندها، سيكون سلاح الميليشيات منتشراً في الشوارع.
وما يثير شك المراقبين في هذا السياق أنّه سبق للقوات الأميركية أن تحدثت عن وجود أنفاق سرية، أنشأها صدام حسين، وتؤدي إلى المنطقة الخضراء، لكنّها غيّبت هذا الموضوع في ما بعد.
أمّا الحديث عن وجود دستور ينظّم «الحياة الديموقراطية»، فهو بنظر معظم العراقيين حديث غير جدّي، لكونه يُنتهَك يومياً من كافّة الجهات، كذلك فإنه مشروط بإجراء تعديلات عليه لم تتم حتى اليوم. أمّا «الديموقراطية»، فأصبحت بمثابة مزحة سمجة، فيما قد تدّعي الولايات المتحدة، لو كان حدوث انقلاب ملائماً لمصالحها، أنّ الأمر شأن داخلي سببه «خلاف دستوري»، ولو كان من واجبها منع التدخل الخارجي.
12 من أصل 14 من قادة فرق الجيش ووزراء الدفاع والداخلية والأمن مشمولون بقرارات الاجتثاث
وعند الحديث عن «الضمانة» التي توفّرها المؤسسات الدستورية العراقية الحالية، من جيش إلى شرطة ووزارت، لا بدّ من التذكير بأنّ 12 من أصل 14 من قادة الفرق العسكرية، والكثير من كبار الضباط، مشمولون بقرارات «هيئة المساءلة والعدالة» وسلفها «هيئة اجتثاث البعث»، إضافة إلى وزراء الدفاع عبد القادر العبيدي والداخلية جواد البولاني والأمن الوطني شروان الوائلي، الأمر الذي دفع كلاً من قائد قوات الاحتلال الأميركي في العراق الجنرال ريمون أوديرنو، وقبله نائب الرئيس الأميركي جوزف بايدن، وبعدهما السفير الأميركي في بغداد كريستوفر هيل، إلى اعتبار أنّ القرارات الأخيرة لـ«المساءلة والعدالة» تعني تخريب كل ما بنته القوات الأميركية خلال العامين ونصف العام الماضيين.
ويُجمع عدد كبير من العراقيين على أن النظام الحالي لن يجد من يدافع عنه، حتى ميليشياته. ولن تقف قوة عسكرية ضد قوة أخرى لأسباب كثيرة تتعلق بتكوين الجيش والشرطة طائفياً وإثنياً.
ويروي المواطنون العراقيون، على سبيل التندّر، قصّة مفادها أنّ فتاة عراقية اشتكت لدى أشقّائها من رجل دين، يقف عند ناصية الشارع ويتحرّش بها كلّما يراها، فلم يصدّق الإخوة ذلك. حينها طلبت منهم أن يراقبوها عن قرب من دون أن يشعر بهم. وبالفعل، خرجت الفتاة من منزلها، وشاهد الإخوة رجل الدين يتحرش بها، فانهالوا عليه ضرباً. وصودف مرور سائق سيارة أجرة، وشاهد الشبان يضربون الرجل، فما كان منه إلا أن أوقف سيارته، ونزل منها، وأخذ يشاركهم الضرب. وعند وصول الشرطة، اقتادت «المعتدين» ورجل الدين إلى المخفر، وهناك سألهم المحقق: لماذا تضربون هذا الرجل؟ فأجابوه بأنه يتحرش بشقيقتهم. ثم سأل المحقّق سائق سيارة الأجرة، فأجاب: رأيتهم يضربون رجل دين، فاعتقدت أنّ انقلاباً حصل، وأردت المشاركة «لأكسب الثواب».


العسكر والاجتثاث