جمانة فرحاتولّد النزاع في دارفور مُناقشات جوهرية عن أعداد الموت ونِسبه وسط اتهامات بتسييس الأرقام لاستقدام التدخلات الخارجية. لكن الحقيقة المؤكّدة هي وجود ضحايا مدنيّين قُتلوا من دون ذنب، إمّا بسبب العمليات العسكرية المباشرة والعنف الذي رافقها، وإمّا بسبب الأمراض المنتشرة في الإقليم، الذي عانى خلال سنوات عديدة أوضاعاً صحيّة متردية، انعكست سلباً على الظروف المعيشية والصحية لسكانه. وأعادت دراسة جديدة نُشرت في مجلة «لانسيت» الطبيّة البريطانية الجدال في أرقام الوفيات في الإقليم، الذي يشهد منذ عام 2003 نزاعاً مسلحاً، بعدما أشار معدّا الدراسة، أوليفييه ديغوم وديباراتي غوها سابير، من مركز أبحاث الأمراض الوبائية الناتجة من الكوارث في بروكسل، إلى أن «أكثر من 80 في المئة من الوفيات لم تكن بسبب العنف»، بل سببها أمراض مثل الإسهال.
ووفقاً للدراسة، فإن المشكلة الأساسية في تقويم عدد الوفيات في دارفور، والاختلاف في الأرقام، كانت بسبب التركيز على إحصاء الوفيات، لا أسبابها ونمطها.
وتلفت الدراسة إلى أن معدلات الوفيات بلغت الذروة مع اقتراب نهاية عام 2003 وحتى وقت مبكر من عام 2004، وهي المرحلة الأولى والأشد ضراوةً في النزاع.
ووفقاً للأرقام التي أظهرتها الدراسة، فقد بلغ معدّل الوفيات في تلك الفترة من ثماني إلى عشر مرات أعلى من المتوقع في حالات الحروب، وتقريباً أربع مرات أعلى من المستوى الطارئ بمعدل وفاة واحدة لكل 10 آلاف شخص في اليوم. لكنّ دخول النزاع في دارفور بعد ذلك في مرحلة من الاستقرار، لم يُسهم في عودة معدل الوفيات إلى طبيعته.
وتتماهى الدراسة مع الأرقام المعطاة دولياً لعدد ضحايا النزاع، واعتبار أن المجموع العام قد بلغ نحو 300 ألف حالة، يُضاف إليها 90 ألفاً آخرون في حال شمول الوفيات اللاجئين في المخيمات التشادية، إلّا أنها دحضت الإحصاءات التي تتحدث عن العنف سبباً أوّليّاً للوفاة في الإقليم. وشدّدت الدراسة على أن الأسباب الرئيسية للوفيات أثناء فترة الهدوء في العمليات العسكرية كانت بسبب الأمراض، وفي مقدمتها الإسهال، مميزةً بين السكان الذين بقوا في قراهم، والذين اضطروا إلى النزوح، حيث كان معدل الوفيات بينهم أعلى.
واللافت في الدراسة الجديدة، ليس فقط إلقاء اللوم على النزاع ومحدوديّة المناطق التي كان من الممكن الدخول إليها لتقديم المساعدات، بل توجيه أصابع الاتهام إلى منظمة الغذاء العالمي بأنها السبب غير المباشر في حصول العديد من الوفيات بسبب خفض مساعداتها الغذائية بنسبة 50 في المئة في عام 2006. ووفقاً للدراسة، برزت فجوات كبيرة في قطاعات الصحّة والمياه والصرف الصحي، بقيت المنظمة الدولية عاجزة عن توفيرها.
ومن هذا المنطلق، خلص التقرير إلى توقّع الأسوأ في ظل مواصلة الحكومة السودانية طرد المنظمات الإغاثية.
وأسهمت الدراسة الجديدة في فتح باب النقاش من جديد في مدى صحة حصول إبادة جماعية في دارفور، وخصوصاً أن التشكيك في هذه الأرقام لطالما كان محطّ حديث السلطات السودانية، التي تصر على مقتل عشرات الآلاف، لا مئات الآلاف.
تشكيك حاول الإضاءة عليه عدد من الباحثين العرب والأجانب وسط تضارب الأرقام وغياب أيّ تقويم موضوعي لضحايا النزاع، والحديث عن دور للوبي الصهيوني في تضخيم المشكلة. دور يرى البعض أنه يتجسد في «تحالف إنقاذ دارفور»، الذي تعمل تحت لوائه أكثر من 150 منظمة تروّج لحصول إبادة في دارفور، وتتبنّى وجود أكثر من 400 ألف قتيل جراء النزاع.
واللافت أيضاً أن صدور الدراسة جاء بالتزامن مع قرب إصدار المحكمة الجنائية الدولية، قرارها في الاستئناف المقدّم من المدعي العام للمحكمة الجنائية لويس مورينو أوكامبو لنقض قرار قضاة المحكمة البدائية المتعلق بمذكرة التوقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير، الذي لم يتضمن تهمة الإبادة الجماعية.