القاهرة | تبدو زيارة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إلى نيويورك من أهم الزيارات الخارجية التي أجراها منذ وصوله السلطة العام الماضي، ليس لكثرة اللقاءات الثنائية التي أجراها أو الاتفاقات التي بدأ التفاوض عليها مع عدة دول بين الجهات المعنية، ولكن لكشفه عن جانب جديد في السياسة الخارجية يختلف عن نظامين تاريخيين تزعمهما جمال عبد الناصر وأنور السادات.
الاهتمام الكبير الذي يوليه السيسي للسياسة الخارجية ظهرت ملامحه في لقاءاته وتصريحاته الإعلامية الأخيرة، فبرغم اعتياد الرؤساء المصريين الذهاب إلى الأمم المتحدة والاكتفاء بزيارتها مرة واحدة، فإن السيسي حرص للعام الثاني على التوالي على ترؤس وفد بلاده.
يسعى الرجل الصاعد من قيادة الجيش إلى رئاسة الدولة إلى استعادة مكانة القاهرة دولياً، ليس أملاً في استعادة الأمجاد التاريخية فقط، ولكن لتخفيف الانتقادات ضد الإجراءات القمعية التي يتخذها نظامه، وسعيه إلى طي صفحة «جماعة الإخوان المسلمين» عدة سنوات على الأقل، ولا سيما أن علاقات الصداقة والتحالف الإستراتيجي مع الدول الكبرى ستجعل إغلاق الملف نتيجة سهلة، ولكن بصورة غير معلنة.
كسر السيسي قاعدة حسني مبارك بحجه سنوياً إلى البيت الأبيض أو إرسال من ينوب عنه، وذلك بالاكتفاء بحضور لقاءات الأمم المتحدة؛ وحتى الآن لم يجر الترتيب لزيارة رسمية للرئيس المصري إلى واشنطن برغم تلقي القاهرة دعوة سابقة من إدارة باراك أوباما فور وصوله إلى الحكم في حزيران 2014.
هكذا يظهر السيسي نفسه كمن يمسك العصا من المنتصف، في العلاقات مع الولايات المتحدة، فهو يقدر موقفها في المساعدات العسكرية المستمرة بموجب اتفاقية «كامب ديفيد» وتواصل تدفق المعونة العسكرية سنوياً، كما يشيد بالعلاقات المتميزة على المستوى الثنائي بين البلدين في المجالات الإستراتيجية، وفي الوقت نفسه يواصل التقرب من روسيا للحصول على المزيد من الأسلحة، ويفعل ذلك مع أوروبا التي يريد منها سلاحاً وضخا لاستثمارات كبيرة.
لا يعلن السيسي انحيازه إلى أي طرف على حساب آخر، كما بدا في عدد من الملفات الإقليمية، وهو النمط نفسه الذي يحاول فيه بدبلوماسية الابتعاد عن نقاط الخلاف بين موسكو وواشنطن، من دون تنازلات أو تصريحات تحسب عليه. لذلك يدرك نظام الجنرال أهمية الإعلام الأميركي ودوره، وهو ما دفع الرئاسة إلى ترتيب سلسلة لقاءات مع كبرى وسائل الإعلام هناك لإيصال رسائل محددة، أكد فيها السيسي أن جميع مفاتيح المنطقة في يده بحكم قدرته على التدخل واداء دور الوسيط في الحرب السورية أو القضية الفلسطينية. وهذه الزيارة لم تكن سوى تكريس لسلسلة من التصريحات واللقاءات اللافت فيها تراجع الموقف المصري بالاكتفاء بـ«القدس الشرقية عاصمة لفلسطين»، وهو موقف مخالف لنظام مبارك الذي تمسك بـ«الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف». فوق ذلك أعلن الرئيس المصري صراحة تمسكه بعدم فتح معبر رفح بانتظام أمام الفلسطينيين إلا بتسليمه للسلطة في رام الله وابتعاد حركة «حماس» عن إدارته.
في المقابل، لا يمانع السيسي من خوض زمام المبادرة مرة أخرى لتوسيع عملية التسوية مع إسرائيل لتشمل كل الدول العربية شريطة «إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة»، وهي المحاولة التي يجري بلورتها مع «اللجنة الرباعية للسلام»، فيما يرى مساعدو الرئيس أن المحاولة الأميركية ستفشل على غرار ما فعل الرئيس الأسبق بل كلينتون خلال الشهور الأخيرة من ولايته.
وبرغم أن السيسي لم يستقبل أي مسؤول من الحكومة الإسرائيلية في القاهرة منذ إطاحة نظام مبارك في 25 كانون الثاني 2011، فإن إعادة افتتاح السفارة الإسرائيلية في القاهرة وارتفاع مستوى تبادل الزيارات بين مسؤولي الاستخبارات والأجهزة الأمنية لدى الجانبين، يعكسان تفاهماً كبيراً في العلاقات الثنائية التي شهدت انتعاشة خلال الشهور الماضية وتنسيقاً كبيراً.
في شأن آخر، وظف السيسي الخوف العالمي من تنظيم «داعش» بما يتوافق مع رغبته في إعطاء العمليات العسكرية في سيناء (المحاطة بتعتيم إعلامي كبير ويقع فيها ضحايا مدنيون) لمصلحته، وذلك بالتشديد على ضرورة «كبح جماح الإرهاب ومواجهته» مهما استغرق الأمر، وهو ما عكس صمتا عالميا عما يحدث من تجاوزات حقوقية كانت تسبب صداعا مزمنا للخارجية المصرية في المرحلة التي أعقبت عزل الرئيس الإسلامي محمد مرسي عن الحكم، مع العلم بأن الأوضاع الحالية أصبحت أكثر عنفاً وفيها استخدام مفرط للقوة من الجيش والداخلية.
كذلك فإن السيسي وضع القاهرة على أجندة أي مفاوضات سياسية لحل الأزمة في سورياً دولياً، وهي الخطوة التي جاءت بعد اتصالات مباشرة بين الخارجية المصرية ونظيرتها الروسية مع وجود استعداد لإعادة العلاقات بين البلدين مرة أخرى، كما أظهر أن بلاده يمكن أن تكون الوسيط الأهم عربياً في مجموعة الاتصال الدولية التي ستضم الولايات المتحدة، وروسيا، وإيران، وتركيا، والسعودية، وخاصة بعدما نجح في إقناع الرياض بالعدول عن موقفها المتعنت والرافض لأي مفاوضات مع الرئيس السوري، بشار الأسد.