كوفية
كان عمري ثلاثة عشر عاماً عندما لبست الكوفية لأوّل مرة، كان ذلك خلال تظاهرة حاشدة في مدينة صيدا دعماً للانتفاضة الثانية وتنديداً باغتيال الشهيد محمد الدُرة. لم يكن لديّ أدنى فكرة عن القيمة المعنوية التي تحملها الكوفية، كان همي الوحيد أن ألبسها مثل بقية المعتصمين، أن ألفها على وجهي كله وأن أترك (عبسة حواجبي) واضحة للكاميرات كي يراني المُحتل الغاصب أندد باحتلاله على شاشات التلفزيون.
انتهت موجة التظاهرات على وقع أغنية «يا نبض الضفة لا تهدأ أعلنها ثورة»، وخفض سعر كاسيت الأغاني الثورية من 5 آلاف ليرة إلى ألفي ليرة لبنانية، و«انضرب» سوق الكوفية حتى أُعيدت إلى المخازن بانتظار انتفاضة ثالثة أو مجزرة جديدة. حتى الكوفية التي استوليت عليها أساساً من خزانة أُختي الكبرى، تُركت منسية إلى ما بعد امتحانات البريفيه (لأن الهمروجة خلصت) وإن كانت مؤخرة الكلاشن لا تزال وقتها موشومة على جانبي الأيسر بعدما (أكلت ضربة بالخطأ) من الدرك الذين كانوا يحافظون على سلامة سير التظاهرة! لكن بعد الامتحانات الرسمية، أخذت استراحتي (بالتنكيش) عن ماض يربط عائلتي بالانتفاضة، بالأرض المُحتلة، بفلسطين كلها، فلم أجد إلا صندوقاً كُتب عليه بالعبرية، فاستأت كثيراً. «ماما، كوفيّة سيدي أبو العباس وين؟ بدي إياها!»، فردت أمي «هدول بيطلوعش من بيت ستّك، بعدين سيدك تركلنا صندوق من البلاد، جيبي أصحابك يتفرجوا عليه عنّا بالبيت!»، «ماما، هاد صندوق مش من البلاد، مكتوب عليه إسرائيلي! بعدين ستي شو بدها بالكوفيّة؟ ما هي بتنزلش مظاهرات!». رمقتني أمي بابتسامتها الساخرة، ولم تقل شيئاً، أما أنا فعندما تبتسم أمي مثل هذه الابتسامة فأعلم جيداً أنه عليّ الانسحاب استراتيجياً من أرض المعركة قبل تكبدّ خسائر فادحة!
لكل كوفية قصتها العاطفية مع صاحبها، حتى لو كان قد اشتراها من محل باهظ الثمن في شارع الحمرا أو من محال البالة في سوق مخيم صبرا، فلمجرد أنها تحميه من البرد فستحصل هذه العلاقة العاطفية لا مُحال. 10 سنوات مرت على كوفيتي، من اعتصام إلى مواجهة إلى حياة يومية اعتدت ارتداء الكوفية فيها حتى أصبحت رمزاً ودلالة بحد ذاتها من دون أن أشعر. فهمت مشاعر ستي وأمي تجاه (حطّة أبو العباس) المقدسة، وتجاه ذلك الصندوق الذي اكتشفت لاحقاً أنه كُتب عليه «تخزين»، فسيدي كان يعبر الحدود ليجلب السلاح والمخزون من العدو كي يقاتلهم بسلاحهم (هاي مش سرقة، هاي فهلوية. مش همّا سرقوا الأرض بالأساس؟).
إيمان بشير



«بسيدر»

عندما لبست الكوفية لأول مرة، لم تكن كوفيتي، ولم يكن باستطاعتي الاستيلاء عليها حتى، أكثر ما استطعت تحصيله كان أن أرتديها لفترة و«ألوح» فيها بفخر، ثم أعيدها لصاحبها الأصلي. لم أشترِ كوفية إلا لاحقاً، وحتى كوفيتي الأولى لم تكن إلا تقليداً للكوفية الحقيقية.
الغريب أني لم أعد أجيد التمييز بين «الحقيقي» و«التقليد»، أصبح كل شيء «موضة». كما لم يعد بالإمكان التمييز بين «التطبيع» و«الحفاظ على الهوية القومية في واقع مشوه»، كأن تتحدث جملة مكوّنة من خمس كلمات ثلاث منها بالعبرية، وإن كنت عربياً «قح» وأظهرت امتعاضك من استعمال الكلمات العبرية خلال الحديث فسيواجهونك بجملة واحدة «بلاش تعمل وطني علينا»، وإن تحدثت بالعبرية (بدون العربية) قالوا لك «شو من وينتا صاير يهودي»، هناك كلمات لا أحاول حتى ترجمتها إلى العربية، رغم أني أكيدة من وجود معان لها، لكن استعمالها بالعربية في لغتنا الدارجة أصبح بلا معنى!
ليس غريباً أن تسمعي مثلاً مثل هذا الحديث في الجامعة بين طالبين «عربيين»:
_ شو الوضع؟
_ والله صبابا، وأنت «ما همتساف» (شو الوضع؟)؟
_ «بسيدر» (تمام)، شو كيف كان الامتحان؟
_ «بسيدر» بجيب فيه «عَفار» (علامة عبور)
_ آه، بس هو يعني ما كان صعب، بالعكس مقارنة مع سنين سابقة كان «ستام شتيوت» (مجرد حماقة)!
_ المهم اخلص منه، بعدين بعمل «شيبور» (ملحق)
_ طيب لكان «اني زاز» (رح اتحرك)، احكي معي بس توصل، في سؤال بـ«العافودا» (الوظيفة) الأخيرة مش فاهمه.
_ «طوف» (جيد) «مينيموم» (على الأقل) ببعتلك "هوداعا» (رسالة نصية)
_ صبابا، يلا باي!
لا هذه ليست محادثة بين شابين «متأسرلين»، قد يكون هذان الشابان من أكثر الشباب تعصباً للقضية، ولكن لم يعد الحديث بعربية مشوهة في واقع مشوه يُعتبر تطبيعاً مع واقع مفروض علينا، إنه ببساطة مجرد «هيك موضة».
أنهار حجازي