Strong>مطالبة بتعريب البطريركيّة الأرثوذكسيّةلا تكاد تختفي فضيحة تسريب ممتلكات البطريركية الأرثوذكسيّة في فلسطين المحتلة إلى الإسرائيليين، حتى تظهر أخرى. آلاف الدونمات سُرّبت على مدار الأعوام الماضية بفعل عقود احتكارية في مقابل أموال بخسة، ما يجعل البطريركية مشاركة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في عمليات التهويد الإسرائيلية، ولا سيّما أن التسريب يطاول أراضي القدس المحتلة وبيت لحم، حيث لبّ الصراع

فراس خطيب
ديوان الرئاسة والكنيست الإسرائيليان وغيرهما من المؤسسات الرسمية العبرية جاثمة على أراضٍ سرّبتها البطريركية اليونانية الأرثوذكسية على مدار سنوات إلى أطراف إسرائيليين. مع مرور الزمن، صارت هذه الحقيقة المؤلمة نهجاً، وأصابع الاتهام موجّهة إلى البطريرك اليوناني ثيوفيليس الثالث، لتعيد المطالبة بـ«عروبة الكنيسة» إلى المحك.
في السادس من كانون الثاني من عام 2010، وصل البطريرك اليوناني ثيوفيلوس الثالث إلى ساحة كنيسة المهد في مدينة بيت لحم المحتلّة للاحتفال السنوي التقليدي بعيد الميلاد حسب التقومي الشرقي. لم تكن فرق الكشافة الأرثوذكسية في استقباله، كما فعلت مع سابقيه من الرؤساء الروحيّين، واختفت المظاهر الاحتفالية لتحل مكانها ملامح الاحتجاج بقوّة.
العشرات من المواطنين والممثلين عن مؤسسات أرثوذكسية عربية، ومن أبناء الطائفة العربية الأرثوذكسية رفعوا شعاراتٍ مندّدة بالبطريرك القادم إلى ساحة المهد، والمتّهم بالتورط بتسريب عقارات للإسرائيليين. تلك الأملاك ـــــ التي لا يمكن بيعها فعلياً لكونها أوقافاً ـــــ سُرَّبَتْ إلى جهاتٍ إسرائيلية عبر اتفاق على احتكارها لمدة 99 عاماً وتجديد المدّة مع نهايتها، في مقابل أموال بخسة.
العقارات التي يجري الحديث عنها تقع في صلب مناطق الصراع، وتسريبها يعني خسارة جوهرية وهدية للتهويد. أحد المشاركين في المسيرة المناهضة لثيوفيلوس الثالث قال في حينه: «إنَّ هذه قضية لا يمكن السكوت عنها، ونحن أبناء الطائفة العرب، وأبناء لفلسطين نعدّ هذه الممارسات باطلة بحق أبناء شعبنا وتاريخنا»، وهو ما أكدته أيضاً كل الفعاليّات المشاركة.
كانت الشعارات تقول إنّ «البطيركية مؤسسة كنسية لا وكالة عقارات»، و«الأراضي المقدٍّسة ليست للبيع ولا للتأجير».
وتصاعد الاحتجاج أخيراً، مع الكشف عن صفقة جديدة لتسريب 71 دونماً في منطقة «مار الياس»، الواقعة بين مدينتي القدس وبيت لحم المحتلتين. لقد وقّعت هذه الاتفاقية وأثارت غضب الكثير من الأوساط العربية والفلسطينية والأردنية على حدٍّ سواء، التي طالبت بإبطالها الفوري.
ما يجري اليوم، بحسب ما قالت أوساط مقربة من هذا الملف لـ «الأخبار»، يعبّر عن قضية «تهدّد عروبة المدينة المقدسة»، التي تعاني أصلاً من ممارسات تستهدف حجارتها وبشرها على حد سواء.
وصحيح أنَّ البطريرك ثيوفيلوس الثالث هو بطل الحكاية، لكنه ليس الشخصية الوحيدة التي عملت في هذا المضمار، إنه مكمّل الحكاية، وخصوصاً أنّه عيّن من المجمع المقدس اليوناني بعد عزل البطريرك السابق إيرينيوس في خضّم الحديث عن صفقة عقارات سابقة أُبرمت مع جمعيات استيطانية في باب الخليل.
إنَّ المؤسسات الإسرائيلية والجمعيات الاستيطانية، عملت على مدار عقود مضت على شراء عقارات (أو الأصح احتكارها لمدة 99 عاماً)، وتهويدها، وأبرمت صفقات مع البطاركة اليونان كافة، ونجحت على مدار تلك الفترة في تهويد مناطق في الأفق المقدسي الغربي والشرقي. وثمّة صفقات ظاهرة للعيان، وأخرى لا تزال قيد الكتمان، رغم المعارضة. هذه الحال فتحت باب التساؤلات غير المحسومة على مصراعيه، لتأتي صفقة «مار الياس» الأخيرة فتفتح الجرح النازف من جديد.
تعريب الكنيسة بعيد المنال ولا يمكن تحقيقه من دون مساعدة السلطات السياسية
الأملاك التي باعتها البطريركية اليونانية للمؤسسات الإسرائيلية كثيرة جداً. ولعل أبرزها هي أرض الطالبية ورحافيا في القدس الغربية، والممتدة على مساحة 570 دونماً. لقد بُنيت على تلك المنطقة كل المؤسسات الإسرائيلية الرسمية. الكنيست الإسرائيلي جاثم عليها، وديوان رئيس الدولة أيضاً، وبيت رئيس الحكومة، والكنيس الكبير وجنوب الجامعة العبرية. وإذا كانت هذه «الرموز» العبرية ليست كافية، فهناك مواقع أخرى جرى التفريط بها، ومنها حديقة الجرس على طريق القدس ـــــ بيت لحم، وحدائق فندق «كينغ ديفيد»، والمركز التجاري في القدس الغربية، وماميلا، بالقرب من القدس القديمة وغيرها.
البلدة القديمة لم تسلم أيضاً من تسريب العقارات. في داخل القدس القديمة سُرّب فندق مار يوحنا بجانب كنيسة القيامة وميدان عمر بن الخطاب، بواسطة شركة أجنبية أنشأتها شركات استيطانية. تلك الصفقة التي أنكرها البطريرك المعزول ايرينيوس، مدعياً أنَّ باباذيموس (المستشار المالي الذي بعثت به إليه الحكومة اليونانية) قام بعمل غير مخوّل به، وأنه بسبب ذلك هرب. كيف هرب وإلى أين؟ لا أحد يعرف.
الحال لم تتوقف عند هذه العقارات المركزية، واستمرت منذ القدم وصولاً إلى الصفقة الأخيرة، أو «الفضيحة» في صيف عام 2009، التي استهدفت أراضي مار الياس. ويرى الباحث، عضو اللجنة التنفيذية للمؤتمر العربي الأرثوذكسي، أليف صبّاغ، «أنَّ الصفقة كُشِفت بعد صراع قضائي بين شركتين استيطانيتين تدّعي كل واحدة منهما أنها تملك الحق في الأرض. الأولى تدعي أنها صاحبة حق بموجب اتفاق وُقّع مع البطريرك السابق ايرينيوس، والثانية تدّعي ذلك بموجب اتقاف وقّعه ثيوفيلوس الثالث، وهو لا ينكره.
وقال صباغ: «عند اطّلاعنا على الصفقتين، تبين أنَّ الأولى وقّعت مع إيرينيوس، قبل الاعتراف الإسرائيلي بثيوفيلوس بأسبوع واحد، في 14 كانون الأول 2007، أي بعد عزله بسنتين ونصف سنة، والثانية وقّعها ثيوفيلوس، وهي مكتوبة باللغة العبرية يوم 28 نيسان 2009، أي بعد الاعتراف الإسرائيلي به بسنة ونصف سنة تقريباً، مع شركة «تلبيوت الجديدة»، وهي شركة صهيونية بامتياز».
ورأى صبّاغ «أنَّ المثير في الأمر أنَّ الشركة أقيمت خصيصاً لهذه الصفقة قبل يوم واحدٍ فقط من توقيعها. بينما يدّعي المطران ايسيخيوس في المحكمة، وكذلك البطريرك نفسه، أن المجمّع المقدس وافق على هذا الصفقة في 17 تشرين الثاني 2008. مع اعتراف ايسيخيوس، بموجب بروتوكول المحكمة، بأن أعضاء المجمع لا يعرفون مضمون الصفقة، ومن هو الطرف الآخر فيها».
ويرى صبّاغ أنّ كل هذا يثير تساؤلات كثيرة، وخصوصاً أنّ أي صفقة تحتاج إلى معرفة أعضاء المجمع بتفاصيلها وموافقتهم عليها، وأنَّ قطعة الأرض المذكورة في الصفقة هي من أراضي دير مار الياس (71 دونماً) ويقع معظمها في الناحية الشرقية من الخط الأخضر، أي في القدس المحتلة عام 1967.
أما المخاطر الأخرى المترتبة على هذه الصفقة، فتكمن ليس فقط في كونها جزءاً من القدس المحتلة عام 1967، بل إنَّ الاستيطان اليهودي فيها يقطع الطريق بين القدس وبيت لحم، هذا فضلاً عن أنَّ القطعة المذكورة يرافقها 200 دونم أخرى ملاصقة لها، فإذا ما نفّذت الصفقة، فهذا يعني إمكان ضياع 200 دونم أخرى على طول الشارع المؤدي إلى بيت لحم.
ويرى الخبير المقدسي خليل تفكجي، مدير دائرة الخرائط في مركز دراسات القدس، أنَّ العقار يبقى مسجّلاً للبطريركية، لكنَّ الملك يصبح يهودياً، وبعد 99 عاماً تُجدّد اتفاقية الاحتكار.
وفي ما يتعلق بصفقة مار الياس، يرى التفكجي أنَّ ثمة خطورة في هذه الصفقة بالذات، وخصوصاً أن الأرض تقع بين القدس وبيت لحم المحتلتين، وتهدف إلى قطع الطريق بينهما، وبناء فنادق وفق مخطط القدس «2020»، حيث تخطط الدولة العبرية أيضاً لإقامة بيت لحم اليهودية، الهادفة إلى ضرب بيت لحم الفلسطينية اقتصادياً، بحيث سيكون في المنطقة عشرة فنادق، ليأتي السيّاح إلى بيت لحم العربية لزيارتها فقط ومن بعدها يعودون إلى الفنادق الحديثة في بيت لحم «الحديثة».
ويرى التفكجي أنَّ إسرائيل انتهجت في الماضي واليوم استراتيجية شراء العقارات من البطريركية، وهذا ما حدث في صفقة باب الخليل، حين كان ايرينيوس بطريركاً، وهناك استراتيجية إسرائيلية استهدفت أملاكاً في الداخل، وقد نجحت إسرائيل في احتكار أملاكٍ في يافا والناصرة وغيرهما من المناطق، بل نجحت نجاحاً باهراً.
وذكر مصدر لـ«الأخبار» أنه في فترة ثيوفيلوس الثالث جرى أيضاً تأجير حوانيت السنيورة في باب الجديد، التي يقال إنها كانت معروضة لشركة استيطانية، ومن ثم جاء رهبان الفرنسيسكان فأنقذوها بمبلغ 6 ملايين دولار. أمّا المعلومات الكاملة، فغير موجودة، والبطريرك غير مستعد لكشفها بالرغم من التزامه بالشفافية.
وتابع المصدر نفسه أنه «في 25 شباط 2007، بيعت حقوق عقار (مكاتب) في حيفا للغرفة التجارية في شارع عتسمؤت 55 مساحتها 622 متراً مربّعاً بمبلغ 150 ألف دولار، بما في ذلك الديون المستحقة على الغرفة التجارية منذ عام 1992 حين استولت عليها، في وقت قدّر المخمّن قيمة حق البطريركية بمبلغ 350 ألف دولار على الأقل، إضافةً إلى الديون المستحقّة».
يذكر أنَّه خارج المدينة المقدسة، جرى احتكار أراضي البريج (بالقرب من اللطرون) عام 1954 وتبلغ مساحتها 22 ألف دونم لمدة 49 سنة، أي إن مدة الاحتكار قد انتهت، لكن لم يعرف لغاية الآن ماذا حصل للاتفاقية الخاصة بها. هل جُدّدت؟ متى؟ وبأيّ شروط. ولماذا؟ هذا عدا آلاف الدونمات في قيسارية وعقارات في يافا محاذية للكنيسة. ولا ننسى قضية قصر المطران والكثير الكثير. فالكتمان يولّد الحاجة الماسة إلى الشفافية.
مثل هذه الصفقات أعادت طرح قضية «عروبة الكنيسة»، أي أن يكون هناك تأثير عربي داخل البطريركية، وخصوصاً أن معظم أبناء الطائفة الأرثوذكسية هم من العرب.
ويرى صبّاغ أنَّ «تعريب الكنيسة مسألة بعيدة المنال، ولا يمكن تحقيقها من دون مساعدة جريئة من السلطة السياسية ذات السيادة».


معركة التعريبوتبلغ نسبة العرب 90 في المئة من رعايا الكنيسة الأرثوذكسية، ورغم ذلك فهم مستبعَدون من تولّي منصب البطريرك، الذي يتولاه حالياً ثيوفيلوس الثالث (الصورة)، حيث يَختار البطريركَ عادةً أعضاءُ المجلس المقدس في الكنيسة، وجل أعضائه من رجال الدين اليونان. ويخوض الرعايا العرب منذ نحو مئتي عام معركة لتعريب كنيستهم وتحريرها من أيدي رجال الدين اليونان.
يشار إلى أن الأردن هو حالياً صاحب السيادة على البطريركية بموجب القانون الدولي.