تعاني مدينة الفلوجة ظاهرة مخيفة تتمثّل في التشوّهات الخلقية لدى المواليد الجدد، في مشهد يطرح أسئلة جدية عن نوع الأسلحة التي يستخدمها الاحتلال في المدن العراقية
علي شهاب
معاناة جديّة تلاحق أطفال العراق. وبعدما كان الحصار يقضي على أعداد كبيرة منهم، يتكشّف اليوم دور الاحتلال وأسلحته التي استُخدمت منذ بداية عملية «حرية العراق» في التسبب بالأمراض السرطانية والتشوهات الخلقية لدى المواليد الجدد في بعض مدن بلاد الرافدين، ومنها الفلوجة. وفي محاولة لتسليط الضوء على ما يجري، عرضت محطة «سكاي تي في» البريطانية في حزيران 2008 وفي أيلول 2009، برنامجين وثائقيّين يتناولان التشوهات الخلقية لدى المواليد الجدد في الفلوجة بالصور والشهادات.
أحد جنود فرقة المشاة الأميركية الأولى في العراق، التي شاركت في الهجمات على الفلوجة، أكد استخدام «الفوسفور الأبيض» في قصف مدن عدة في العراق.
وهو ما أكده تحقيق تلفزيوني آخر لقناة «راي» الإيطالية عام 2005.
وبحسب مصادر عراقية مطلعة، يوثق الأطباء في مستشفى الفلوجة العام تسجيل 170 حالة لأطفال ولدوا مشوّهين خلال أقل من سنتين، مات أكثر من 30 منهم حتى الآن، فضلاً عن تسجيل عشرات الحالات لأمراض سرطانية وخاصةً اللوكيميا، بين المواليد الجدد.
ولا تقتصر المشاهدات على العراقيين. الطبيب البريطاني، كريس بيرنز كوكس، كان أحد الاختصاصيين الذين زاروا المنطقة، ونقلوا الواقع إلى حكومة بلادهم.
بعث كوكس برسالة إلى عضو البرلمان البريطاني كلير شورت مستفسراً منها عن الولادات المشوهة في الفلوجة، فكتبت الأخيرة بدورها رسالة إلى سكرتير الدولة البريطانية لشؤون التنمية الدولية دوغلاس الكسندر، مطالبةً إياه بتوضيح الموقف الرسمي بشأن هذه الظاهرة.
تسلّمت شورت جواباً بتاريخ الثالث من أيلول عام 2009، بعد يومين من بثّ الوثائقي على محطة «سكاي»، من نائب سكرتير الدولة لشؤون التنمية الدولية غاريث توماس، وهو بمثابة وزير درجة ثانية، يقلّل فيه من أهمية الظاهرة، ويرى أن فيها مبالغة.
واكتفى بالإشارة إلى احتمال حدوث 3 ولادات لأطفال مشوّهين سنوياً في الفلوجة، وبالتالي «ليست هناك مشكلة»، بحسب الرسالة.
واللافت أن التشوهات في الولادة لا تقتصر على الفلوجة، فقد سجلت البصرة أيضاً ولادات مماثلة، وارتفاعاً في نسبة أمراض سرطان الدم.
وعلى الرغم من أن هذه المأساة لم تحظَ باهتمام كبير لدى وسائل الإعلام الغربية، فإنّ صحيفة «ذي غارديان» البريطانية أكدت في تحقيق نشرته العام الماضي أن نسبة المواليد المصابين بالأورام الخبيثة والعيوب الخلقية التي قد تُعزى إلى المواد الكيميائية السامة، جراء ما خلّفته الحرب في العراق عموماً والفلوجة التي تعرضت عام 2004 لهجوم عنيف خصوصاً، ارتفعت خمسة عشر ضعفاًَ. ولفتت إلى أن الارتفاع الذي وصفته «بالاستثنائي» اكتُشف بعد جمع متخصصين يعملون في النظام الصحي بالمدينة تفاصيل السجلات الطبية للمواليد الجدد.
ونقلت الصحيفة عن مدير المستشفى العام بالفلوجة، الدكتور أيمن قيس، قوله إنه بعدما كان يُعلَن عن حالتين كل أسبوعين قبل عام 2003، ارتفعت الأعداد الآن إلى حالتين يومياً.
بدورها، أوضحت طبيبة الأطفال سميرة عبد الغني مسك أن سجلاتها على مدى فترة ثلاثة أسابيع في المستشفى العام للفلوجة وحده، كشفت عن 37 طفلاً يُعاني أكثرهم من عيوب وتشوهات في الأنبوب العصبي.
وأثارت القضية تداعيات داخل دوائر القرار الغربية. كما هي الحال في الولايات المتحدة، إذ اضطر الخبير في وزارة الدفاع الأميركية، دوغ روكز، إلى تقديم استقالته عقب تلقيه شكاوى من أكثر من مئة جندي أميركي يرفضون استخدام اليوارنيوم المنضب في قصف العراق، على أثر العثور على نسب ملحوظة من هذه المواد في فحوص بول الجنود.
ويؤدي استخدام اليورانيوم المنضب علمياً إلى التأثير في الكروموزومات (التي تحمل المادة الوراثية)، ويسبّب «تكسير» شريط الحمض النووي «دي أن إي»، ما يؤدّي إلى انقسام الخلايا وحدوث عيب خلقي وتشوهات، ويبقى مفعولها لعشرات السنين.
والمشكلة الأكبر تكمن في أن هذه التشوهات لا علاج لها، بل يجري تأهيل المولود، إذا بقي على قيد الحياة، وفقاً لبرامج باهظة

170 حالة لمواليد مشوهين خلال أقل من سنتين في الفلوجة
التكاليف، لا يقدر عليها بالتأكيد أهل الفلوجة والبصرة.
هذا الواقع، دفع بمجموعة من المهتمين، بينهم الدكتور البريطاني كوكس ومسؤولة ملف «جرائم الاحتلال في العراق» المهندسة ملاك حمدان، ووزيرة الدولة لشؤون المرأة العراقية ما بين عامي 2006 و2009 الدكتورة نوال السامرائي، إلى مخاطبة الهيئات الدولية والأمم المتحدة، عبر رسالة حصلت «الأخبار» على نسخة منها، تدعو فيها إلى «الاعتراف بحالات الولادات المشوّهة وازدياد أمراض السرطان زيادة غير مسبوقة في الفلوجة والبصرة والنجف وبغداد».
وطالبت المجموعة بتعيين لجنة تقصّي محايدة، فضلاً عن إطلاق برنامج لمعالجة آثار المواد السامة الناجمة عن استخدام الاحتلال لأسلحة محرّمة دولياً.
وعلى الرغم من التعتيم الإعلامي نسبيّاً، وتحرك أكثر من ناشط عراقي بمبادرات فردية، لعكس معاناة الشعب العراقي، لم تتّضح حتى الآن سياسة الحكومة العراقية في متابعة هذا الموضوع جديّاً.
مع العلم أن الأمم المتحدة طالبت مراراً عبر مسؤوليها بالسماح بإجراء تقويم للوضع البيئي في العراق بعيد الغزو، من دون أن تلقى جواباً من الاحتلال الذي يدّعي أنه يخوض حرباً في بلاد الرافدين بموجب «القانون الدولي».