كل ممنوع مرغوب
لي قريبة كانت تعيش في مخيم الرشيدية، تزوّجت فلسطينياً يعيش في غزة. قصة حقيقية، تحدث لكثير من فتيات المخيم، وخاصة بعدما اجتاحت شبكة الإنترنت عوالمهن، بعيداً عن أزقة المخيم وسطوح الدور التي لا ترحم قصص الحب التي تتخللها لمسة يد أو قبلة على الخد. قريبتي التقت زوجها في غرف الدردشة على موقع «ياهو»، وعاشت قصة حُب جامحة استمرت 3 سنوات من وراء الشاشة. كان ذلك قبل 8 سنوات عندما قررت عائلتا الحبيبين الالتقاء في الأردن كي يُكتب الكتاب، وتزوّجت قريبتي من الشاب الغزّاوي الذي لم يترك واسطة حتى أخذها معه إلى غزة. اليوم قريبتي أم لطفلتين وصبي، وشهيد.
«بكرا بشوفك بالأردن وبنتحاسب» هكذا قال، فابتسمت هي أمام الكاميرا وردت «مش رح تلحّق تحاسبني، أنا طالعة أسبوع واحد بس عالأردن، بدّك تحسب يومين منهن عالطريق، ويومين تانيات زيارة لبيت خالتي!». لم يفهم «النكتة»، فهو كفلسطيني يحمل الجنسية الإسرائيلية لا يزور عادة «بيت الخالة» على حدود الأردن. للتوضيح، بيت الخالة تعني الاستخبارات الأردنية! هذه قصةٌ أخرى لفتاة من مخيم القاسمية، أحبّت شاباً من أراضي 48 ويحمل الجنسية الإسرائيلية، لم تلتقِ به حتى الآن رغم أنهما يتحادثان يومياً على الإنترنت منذ سنتين أو أكثر. «طيب وبعدين؟» سؤال وجيه مطروح، أما الرد فـ«كل ممنوع مرغوب»، جدل يدور بينها وبين نفسها يومياً بعد أن تطفئ شاشة الحاسوب. لو كان فلسطينياً يعيش في أراضي السُلطة لكانت الأمور أسهل، لكنها في قرارة نفسها تعلم أنه من المستحيل أن تتزوج شاباً يعيش بما يسمّى «دولة إسرائيل»، وهي تعلم تماماً عناده كلما طرحت فكرة الجنسية الأردنية عليه، كما تعلم أن «الدم رح يصير للرُكبّ» إن أعلنت أنها تحب شاباً من 48! والحل؟ تقول «ما في حل؟ يمكن لأنه بعيد حبيتو؟ في أشياء بالدنيا لازم تحبيها من بعيد وبس، زي ورد الجوري كيف بيبيّن حلو من مسافة؟ لكن كل ما قربتي منه ومسكتيه، بشوكه رح يوجّعك!». قرأت لها قصيدة لدرويش «يعلمني الحب، أن لا أحب» وأتبعتها بالقول «وأعجب كيف يعشق الناس التمسمر على الصليب». فقالت «إش صايرة شاعرة إنتي كمان؟»، فقلت «لأ ستنا بس هاي إهداء خاص إلك وبس!».
تركتها تفكر بما قلت، وتركت نفسي معها تجوب أفكارها لعلها تجد لي حلاً. فأنا أعلم أنها تشعر بما أشعر به، ولكن للأسف، هي لا تعلم أنني أشعر وأنني أعلم!
إيمان بشير

■ ■ ■

كانا يؤمنان بأن حبهما قضية

تعاهدا، بكل الوعود المقدسة، على وطن صغير من بيت وورد وأطفال، كان يحب المخيم فيها، رائحة العَرَق في قميصها، وكانت تعشق أنفه الارستقراطي الذي لا يشبه أبداً سمرة اللجوء المكابر فيه. خبأ الأحلام بالأغاني الناعمة ووسائد الأرق، كانا خائفين من اكتشاف الوطن السر الذي ينمو بينهما في مساحة من ألغام قابلة للانفجار. لم يفرقهما الجدار ولا الحدود الشائكة، لا حقائب سفر ولا معابر مغلقة، ولا حتى هوياتهم الملونة، كل ما في الأمر أن سرهما أصبح عارياً أمام نقاط التفتيش الداخلية ما بين شارعه ونافذة بيتها.
فقط لأنه «ممنوع» حزبياً من خطبتها، بما أنه من أيديولوجيا أخرى لا تتناسب أبدا مع راديكالية عائلتها، حدث ذلك في زمن الاقتتال الداخلي في غزة، تحديداً قبل عامين. وعام آخر لم يكبر بعد في عمريهما الذي شُنق باسم كعكة الوطن المقسمة. صار يونيو من كل عام، ذكرى سنوية لانكسار قلبيهما، كانت المعادلة أسهل بكثير في دفاتر الحسابات الدينية والتصفيات الوطنية المجيدة، لم يكونا سوى خطأ طائش وعابر.
هما أيضاً تحوّلا إلى حجج جاهزة. صارا مهرجَين ملونَين. وباختصار أشد: هو العلماني الأصفر الذي يدخن كثيراً، ولا يشاهَد في صلاة المساجد، وهي ابنة العائلة الخضراء الصارمة، إذاً؟ انتهى الأمر. هكذا، دون وساطات دولية أو تنازلات عاطفية. حفاظاً على المصلحة العامة. ليعش الوطن ... في صحة الثوابت!
حكايات كثيرة يا صديقتي، حكايات كثيرة من وطن مجزأ بجغرافيا التقسيم والمجازر ومعاهدات السلام الموقعة على «بوسترات» الاحتلال العسكرية جرافاته.
حكايات كثيرة تشبه نزاعات اللون الأخضر و الأصفر، الأسود والأحمر، الأحمر و الأحمر الغامق، أما صديقانا؟ فقد كان الوقت كفيلاً بهما، لكنه لم يكن كفيلاً بجرح الذاكرة المفتوح للعابرين، وللوطن الجديد الهازئ بهزيمة حلمهما، هو كفر بمبادئه، وهي ألحدت كل الرايات والشعارات والمنابر. في ما مضى: كانا يؤمنان بأن حبهما قضية، ينتظرُ آخرون انتفاضاتها، أما الآن فهما يحاولان حساب خيبة كل أولئك «الأخرين» المخذولين فيهما.
أسماء شاكر. غزة