Strong>وائل عبد الفتاحقد يحتاج المرء إلى الابتعاد قليلاً لرؤية أفضل. النظرة إلى مصر من الداخل تختلف عنها من الخارج، وتحديداً من فرنسا. التشوّهات تبدو أكثر والشوائب أوضح، ولا سيما مع نماذج خارجية أكثر قدرة على التمثيل. النظرة من الخارج تزيد من الإحساس بفداحة وضع الداخل

قوّة الجسور المقطوعة



«إيجبشيان بار». الوصف فتّان. وضعه صاحب المقهى بجوار الاسم الفرعوني «إيزيس»، وبالقرب منه أيضاً إشارة إلى أنه مكان لتدخين الشيشة. وهذا يعني أن البار على الطريقة المصرية يضمّ دخان المعسل «العادي أو بالنكهات» والشاي الأسود. هذا هو السحر المصري في قلب حيّ «الباستيل».
صاحب المقهى مهاجر منذ عام ١٩٧٩. الجيل الثاني بعد الأرستقراطية المثقّفة ونخبة اليسار البورجوازي وأنتلّجنسيا المصريين المختلطين (بأصولهم الفرنسية والإيطالية أو اليونانية).
جيل مهاجر بحثاً عن رزق بعيد عن بوصلة الخليج. خلفهم قصص نجاح واصطياد لفرص في عاصمة النور التي جعلتها سيرة نجاح طه حسين أيقونة الحرية والتمرد والأناقة المثقّفة. صاحب «إيزيس» يتذكر أيامه في حيّ العباسية مصدوماً في حالها «أصبحت متاهة». في حكاياته عن مصر رنّة أسى الحنين إلى أيام أو صورة «لها جمالها الخاص».
العلاقة مع مصر لا تنقطع بالمتابعة الإخبارية أو بمتابعة أخبار الجالية من بعيد. الجالية المصرية صغيرة حجماً مقارنة بجاليات عربية أخرى (الأرقام ليست رسمية وتقدّر ما بين ١٠٠ إلى ٢٠٠ ألف). والجيل الأحدث غالبيتهم عمال مقاولات ويتندرون في الأجيال الأقدم بأنهم يتحركون بنفسية المستوطنات.
يحكي الجيل القديم بدهشة وسخرية عن «جالية ميت بدر حلاوة»، وهي قرية مصرية توافد أهلها تباعاً على باريس. يعملون جميعاً في مجال واحد، ويعيشون بمنطق العائلات، رغم أن الجالية لا تمثل لهم حماية كما يحدث مثلاً بالنسبة إلى الجزائريين.
في أحد الشوارع التي يرتادها «البو بو» (اختصار فرنسي شهير للبورجوازيين البوهيميين) وقف رجلان يرتديان ملابس مختلفة عن المزاج العام للرواد. وحدهما في قلب الشارع، يتحدثان لكنة محلية (فلاحية) كأنهما سقطا للتوّ من كوكب مختلف، وهما لا يشعران بغربة. هذه الحالات ليست نادرة، وهناك تعليمات للموظفين الفرنسيين بتسهيل إجراءات المصريين لأنهم يعملون ولا يثيرون الشغب.
متسوّل فرنسي (أصلي غير مختلط أو مهاجر) شعر بالنشوة عندما سمع اسم مصر. ظل ينحني احتراماً ويبدي علامات التقدير برقّة عاشق من عصور الرينسانس كما نتخيلهم.
سائق التاكسي ابتسم عندما قلنا له «مساء الخير»، بدلاً من «بونسوار». التقط اللهجة وداعبنا: «من المفروض أن أقول لكم لن تركبوا معي... أنا جزائري».
ضحكنا بصوت عالٍ. السائق اسمه «شعبان». حكي عن محاولة بعض الجزائريين شتم مصريين بعد أول هدف في المباراة الأخيرة. لكنه رفض ودافع عن أصدقاء يعيش معهم ويحب رائحة ثقافتهم من عبد الحليم حافظ إلى اللهجة التي يعرفها أصغر طفل.
السائق لم يخف غضبه من تعالي المصريين على الجزائريين بأنهم أكثر قرباً من الإسلام أو أنهم يعرفون الله أكثر منه، هو الأمازيغي الأصل، الذي يتكلم خلطة لهجات بين الفصحى والمحلية الجزائرية والفرنسية. شعبان تعجّب من سجدة الفريق المصري بعد كل هدف: «لماذا يسجدون... هل يلاعبون كفاراً».
سؤال يثير التفكير، فالنصر الكروي معجزة تؤكد الفخر على أبناء الدّين الواحد والهوية الواحدة. مصر صدّرت الهوية العربية إلى الجزائر، وها هي تصدّر هويات كراهية وتعال ومزايدة تكشف الجرح الثقيل للهويات المعلقة بين وطن قديم قاسٍ ووطن حالي لا يخلو من شعور بالغربة.
الحياة بالهوية المعلقة، معركة جزائرية، لكنها جديدة على المصريين.
الجزائري يحاول مد الجسور بين فرنسا وموطنه الأصلي بإقامة «كومونات مستقلة» و«الاحتلال» السلبي للمستعمر القديم. جزائري من أبناء جيل الزبدة (المهاجرون الأوائل) لا يعرف كلمة عربية واحدة، ويتعصب للجزائر، ويرفض تقديم الكحول في مطعمه وأجبر زوجته على ارتداء الحجاب. إنه يبحث عن رائحة جزائرية في محيطه الفرنسي. وهذا ما يبرع فيه المصريون. يمدّون الجسور بشكل مختلف. والحالة النموذجية هو طارق رمضان، منظّر الإسلام الأوروبي، أو بتعبير أدقّ المنظّر المهتم بحفر مكان للمهاجرين المسلمين في أوروبا.
هو حفيد مؤسس جماعة الإخوان المسلمين من جهة الأم. أبوه سعيد رمضان، من قيادات الجماعة الهاربة في الستينيات. ولد وعاش في المهجر (المنفى) الأوروبي. ولم يعرف مصر إلا عبر حكايات الذاكرة والحنين الخفيف.
طارق رمضان شخصية مثيرة للجدل في فرنسا. لمع نجمه مع أزمة الحجاب (أيام رئاسة جاك شيراك، عندما كان نيكولا ساركوزي وزيراً للداخلية)، بعدها راجت تنظيراته عن الإسلام في أوروبا برؤية يراها البعض براغماتيه ولا تعجب شرائح من المهاجرين ويتشكك فيها كل من ينظّر من خارج حكومات الغرب.
رئيس وزراء بريطانيا السابق، طوني بلير، اختاره مستشاراً لشؤون المسلمين، وعينته روتردام أستاذاً في جامعتها قبل أن تغضب عليه عندما قدّم برنامجاً على محطة إيرانية، وهو ما دفع أميركا الى منعه من دخول أراضيها حتى فترة قريبة. رمضان كان طرفاً في برنامج على القناة الخامسة الفرنسية يناقش قانون النقاب. لم يستخدم لغة دينية في دفاعه عن وجهة النظر الرافضة للقانون، اكتفى بالدفاع من موقع مدني يرى أن هناك مبالغة في إبراز خطورة النقاب.
تنافس رمضان مع الطرف الفرنسي المؤيد للقانون في الدفاع عن «الحرية الشخصية». وهذا جديد على مفكر يوضع بجواره وصف «الإسلامي»، ويُعتبر في باريس رمزاً للمسلمين أو لشريحة منهم تفكر ولا تعيش على عنفها أو محاولة فرض «ثقافة» البلد الأصلي. فرض يمثل نوعاً من «استعمار سلبي».
من أين أتت القوة التي يتحدث بها طارق رمضان؟ ليست قوة الضحايا، الذين يُشعِرون المستعمر القديم بجريمته. ولا قوة الفرنسي المؤمن بعلمانية فرنسا وما يرتبط بها من قائمة أفكار ومبادئ.
إنها قوة وسطى تجعل من خطاب طارق رمضان تجسيداً للحظة الجسور المقطوعة التي يعيشها العالم. إنه خطاب يحمل إمكان توافق ما غير واضح المعالم.
وهذا مثل وصف «إيجبشيان بار» سرّ مصري إلى حدّ ما.

إعلانات كراهية الذات



النظرة إلى مصر من بعيد لا تختلف كثيراً عن النظرة إليها من الداخل. نماذج الفساد متوافرة وبكثرة، وحكايات السماسرة منتشرة، يرويها المصريون وتعبّر عنها إعلانات وزارة السياحة
إعلان ضخم في مترو باريس: «إيجيبت» (مصر). صورة كبيرة التقطتها عدسة كسولة، ومصوّر غير محترف. وامرأة شقراء تحتل الجانب الأكبر من الإعلان.
شقراء؟ سألني أصدقاء يعرفون مصر جيداً: هل هذا هو الجمال المصري. إلى من تشير بطلة الإعلان؟ هل هي مصر الشقراء؟
ترويج بموديل غريب. بيع بضاعة ليست موجودة. تقريباً إنه إعلان عن كراهية الذات. إعلان لا يشجع أحداً على زيارة مصر أو الاقتراب من كل هذه الرتابة والملل بالألوان الشاحبة.
هذه هي مصر من وجهة نظر مسؤولين من دون كفاءة ولا مهارة يختارون شركات إعلان ضعيفة، ويلقون بالأموال في أماكن سرية.
يروي المصريّون في باريس كيف أن مسؤول مكتب تنشيط السياحة، الموجود في الشانزليزيه، حضر وغاب من دون أن يقدّم شيئاًَ.
اسم الرجل استدعى حكايات مذهلة عن وجوده في باريس من دون أوراق، ومحاولاته الزواج من فرنسية، ثم عودته فجأة إلى مصر، ليظهر من جديد وقد أصبح ملكاً على مكتب الشانزليزيه.
ملك الشانزليزيه طبع بطاقات شخصية صغيرة ووزعها على المصريين، ولم يسمع أحد بنشاطه الملكي في خدمة السياحة المصرية.
سأل المصريون عن سر «الملك» العابر للشانزليزيه، وعرفوا أنها شقيقته التي عملت سكرتيرة فترة طويلة لوزير سياحة. وهنا زادت الدهشة: هل سكرتيرة وزير سابق يمكنها أن تصنع مملكة في الشانزليزيه لشقيقها؟
الحكاية هذه تقود إلى أخرى عن العنكبوت الذي احتل المركز الثقافي المصري الموجود في أهم شوارع الثقافة الفرنسية «سان جيرمان»، لكنه دائماً تحت إدارة مسؤول مدعوم من أجهزة عليا لا تهمّه سوى أدواره السرية، لا دوره الثقافي الحقيقي.
هذا هو الوجه السخيف لمصر في بلاد مبهورة بمصر وحضارتها القديمة. مصر غير موجودة في باريس مقارنة ببلد مثل المغرب، الذي عرف كيف يسوّق حضوره السياحي عبر مهرجانات موسيقية وثقافية تجذب نوعيات من المغرمين بأشياء أكثر من الشقراوات المصريات.
الحكايات عن مصر غريبة في باريس، والمصري فيها يرى ما يحدث في بلاده أساطير مرعبة. أحد الذين يعيشون في باريس منذ ٢٨ سنة حضر مرة بالصدفة في القاهرة حفلاً ضم «كبار الشخصيات في مصر». كان مهتماً بمعرفة ما يشغلهم ويفكرون به، ليكتشف أنها «الشقق والأراضي». لا حديث لهم إلا عن الفرص والبيع في مجال العقارات.
شعر الرجل بالصدمة. وشعر أن هناك شيئاً مريباً في بلده، الذي يريد اقتسام الحياة فيه مع باريس. لكن كيف سيعيش في بلد يحكمه «سماسرة» عقارات؟

حكم «الحكيم»وغالباً التوصيف دقيق. فالرجل حكيم فعلاً. لكنها حكمة موظفين يعيشون في سنة ٢٠١٠ بقواعد تقاليد موضوعة من عصور قديمة. وهذا ما جعل العاشق الفرنسي لمصر يبتسم وهو يحكي عن أمه المصرية.
الأم توقفت بالزمن عند الملك فاروق، ولا تريد العودة لكي لا تصدم في نهاية عمرها بالصورة التي وصلت إليها. هي ملكة جمال مصر في أول الخمسينيات. سافرت الى أميركا خلف فرصة التمثيل في هوليوود. لكنها وقعت في غرام مغامر إسباني من أصل جزائري ويعمل في كوبا. قال لها «إما أنا أو هوليوود»، فاختارت المغامر الذي كان وراء توقيع اتفاقية سكر شهيرة في الستينيات دعم بها أرنستو تشي غيفارا نظام جمال عبد الناصر.
الابن يحب مصر على إيقاع حنين أمه وحكاياتها عن الزمن الذي راح، ويحبها لأن له استثمارات وشراكة مع عائلات كبيرة في الزراعة حاول معهم استصلاح أراضٍ في جنوب الصعيد تابعة لمؤسسات سيادية.
«مصر كبيرة. كبيرة قوي»، قالها المصري الذي يعيش منذ ١٩٧٩ في باريس. «لماذا أصبحت مصر أسيرة شخصيات مثل هشام طلعت مصطفى؟».
الجواب قد يكون أن «هذا هو سر الحكمة التي يتحدثون عنها في باريس». ربما تكون معجزة نظام مبارك بأنه لم يكن لديه «موديل جاهز» يحكم به. كان شعاره «دعه يعمل. دعه يمر. لكن بعد أن نختم عليه». هذه العقلية ورغم حسها الأمني المفرط، أتاحت وجوداً لمجتمع مدني. صحيح أنه وجود بالصدفة التاريخية التي جعلت العالم يطالب النظام الحكيم بفك قبضته. وربما لا تكون المشكلة بالرئيس. الغالبية في فرنسا يشعرون بالغضب لأن ساركوزي يسير على نهج مبارك في اختيار من يستطيع السيطرة عليه. أصحاب المطامع الصغيرة والعقليات المغلقة.
فرنسا اختارت رئيساً على النموذج الأميركي. وأميركا اختارت رئيساً حسب النموذج الفرنسي. ساركوزي رئيس لا يبدو منتمياً الى خلطة القيم الجمهورية الفرنسية، ابن عصر المصالح والمؤسسات المالية الكبرى. ويبدو أنه تعلّم كثيراً من المعجزة المصرية. وأوباما رئيس اختارته أميركا بأخلاقها السياسية وأفكارها.
فرنسا وفيّة «اضطراريّاً» لأفكار العدالة والحرية والمساواة. ولكن مع ساركوزي، ربما يكون على ملايين المصريين تقديم طلب للشعب الفرنسي لقبول هدية نظام الحكمة المصرية.
ولن تكون الهدية سوى أعجوبة العصر والأوان الدكتور أحمد زكي بدر.

في انتظار المنقذ: البرادعي عاد لـ... «التغيير»؟وصول محمد البرادعي إلى مصر أمس قد يكون نقطة انعطاف سياسي، أو مجرّد فورة عاطفية لجماهير تبحث عن التغيير. 8 أيام مقبلة ستحدّد مدى جدية «المنقذ» في خوض معركة «التغيير»
شيء جديد حدث أمس في مصر. العائلة التي وصلت خصيصاً من دولة خليجية لتستقبل الدكتور محمد البرادعي ليست وحدها، لكنها بين عائلات لم تغادر بيوتها من قبل للاشتراك في أحداث سياسية. هذا هو الحدث الكبير الذي لخّصه وصول البرادعي إلى القاهرة لمدة ٨ أيام.
لم يكن الدكتور محمد يتخيّل أنه، وهو في السابعة والستين، ستنتظر منه الملايين أن يؤدّي دور «المشاغب» السياسي في لحظة ارتباك كبرى.
الرجل المخضرم في مجالات الدبلوماسية الدولية وجد نفسه على رأس قائمة الأمل في مواجهة مخطط الملل الرهيب من أجل الخلود على مقاعد السلطة.
البرادعي القادم من خارج لعبة الملل يدفع الآن ليتصدر شرائح رفض تحول الرئيس حسني مبارك إلى رأس سلالة حاكمة ليست كسابقتها تنتمي إلى مؤسسة الجيش، ولكنها عائلية.
هذا ما يستفز قطاعات تستقوي بمرشح الأمل على اليأس الطاعن وتنتظر فيه المنقذ الذي «يقود التغيير». قدر سياسي ينتظر المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، ويضعه في مواجهة مدفع النظام وكلاب حراسته الصحافية والسياسية.
في انتظار المنقذ. شيء أقرب إلى كرنفال سياسي. علم مصر بطول عشرين متراً، وشباب وشيوخ وأطفال يحملون لافتات من محافظات مصر ويرتدون قمصاناً تحمل صورة الرجل بابتسامة واثقة.
أرقام المشاركين لم تُحصر بدقة (بين ألفين و٤ آلاف). توافدت من الساعات الأولى أسماء المشاهير، المذيع حمدي قنديل والنجم السينمائي خالد أبو النجا والأديب علاء الأسواني والطبيب المعروف محمد أبو الغار والنشطاء جورج إسحاق والدكتور حسن نافعة والمستشار محمود الخضيري وآخرون.
الحشد ليس ضخماً في نظر عشاق الحشود الجماهيرية الكبرى، لكنه «رمزي» للباحثين عن «أمل الأمة»، كما وصفت اللافتات الدكتور البرادعي.
تعهّد بتقديم كل ما يستطيع لنقل مصر نحو الديموقراطية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي
الرمز هنا هو رغبة الخروج على طاعة النظام، والبحث خارج حزامه السياسي عن المستقبل. توترت أجهزة النظام مبكراً من حملة استقبال البرادعي. وأرسلت تحذيرات بالتعامل الحديدي مع كل من تسوّل له نفسه الاقتراب من المطار. وتعاملت الغالبية مع التحذيرات بجدية الخبراء بشهوة النظام إلى السيطرة على المجال العام. فتسمح الأجهزة باستقبال منتخب كرة القدم وتضع ٦ آلاف جندي (كما نشر في الصحف) في استقبال البرادعي.
تسمح الحكومة باحتفالات النصر الكروي، لكنها ترفض تظاهرات استقبال من يتعامل معه الناس على أنه أمل سياسي خرج من وسط ضباب كثيف جداً، وأيام عتمة سياسية.
البرادعي ليس الموضوع. الموضوع هو مجتمع يدافع عن حقه في الخروج من حزام الدولة. رغبة الناس في استقبال من تراه علامة «أمل سياسي» هو دفاع عن الحيّز الخاص. عن مستقبل «لا يعاني فيه الجيل الجديد المذاق المر الذي عاشته الأجيال الحالية»، أو كما قال صاحب مطعم شهير في وسط العاصمة للصحافيين «لا أريد لأولادي أن يعيشوا الظلم والفساد مثلما عشت». الرجل، الذي طبع عبارة «البرادعي رئيساً ٢٠١١» على كل الأوراق المالية التي تدخل مطعمه، قال: «أريد لأولادي فرصة في حياة لا يفكرون فيها في الهجرة من مصر».
هل يصلح البرادعي؟ إنه مجرد فورة؟ سحابة صيف؟ شحنة عاطفية وستبرد؟ هل البرادعي هو المنقذ؟ هل هو الرئيس المنتظر؟ كل هذه أسئلة خارج اللحظة.
اللحظة فعلاً هي محاولة خروج المجتمع من القمقم ليدافع عن حقه في التجربة والاختيار، وحقه أيضاً في الخطأ.
لا تنتظر مصر «مسيحاً سياسياً» يحل كل المشكلات و«يعدل المايلة» ويحقّق باللمسة الساحرة كل ما يحلم به المصريون.
مصر تحتاج إلى تغيير قواعد اللعبة. فتح باب الأمل. كسر ترسانات الملل التي يحكم بها نظام مبارك منذ ٣٠ سنة.
«الملل في مواجهة الأمل». هذا ما يفعله نظام يشعر بالخطر من تغيير قواعد اللعبة السياسية على يد شخص قادم من خارج حزامه الأمني.
البرادعي رفض الخروج من صالة كبار الزوّار، بل خرج من الصالة العادية محترماً حشود الاستقبال، التي هتفت «مفيش رجوع يا برادعي» و«اخترناك يا برادعي».
هتافات اليائسين تتوجّه إلى رجل مختلف هذه المرة عن وجوه السياسيين المعروفة. وللمرة الأولى منذ تنحّي الرئيس جمال عبد الناصر بعد هزيمة حزيران، يهتف المصريون باسم شخص طلباً للإنقاذ. كما أنها المرة الأولى التي يستقبل فيها المصريون شخصاً عائداً من السفر محمّلين بمطلب سياسي، أو معبّرين عن أمل يرون أنه الممثل الوحيد له.
هذا هو الجديد، وربما يمكن إضافة شيء هامشي، وهو ذكاء الأمن المصري الذي حاصر المطار، ولم يتعرّض للحشود بعد نجاح حملة التخويف في تقليص المستقبلين. الأمن رفض خروج البرادعي خوفاً على سلامته بعد التدافع الهستيري المتحمس لاستقباله. واختار له بوابة أخرى. وفي هذه التصرفات إشارة إلى أن النظام أمام عملية تحتاج إلى تغيير تكتيكاته المعروفة. تغيير لن تكون آخره البوابة التي يمر منها البرادعي، الذي أبدى عشية وصوله، تصميمه على تقديم «كل ما أستطيع لكي تنتقل مصر نقلة نوعية نحو الديموقراطية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي». وقال إنه يريد أن يكون «وسيلة للتغيير».

«التجميل» في موقعة جنيف



ضحك المحامي العائد من جنيف وهو يروي ترتيبات الوفد المصري في مواجهة «محاكمتها» في المجلس الدولي لحقوق الإنسان. مصر ذهبت بوفد رسمي برئاسة وزير الشؤون الدستورية الدكتور مفيد شهاب، لتبدو على «موجة» حقوق الإنسان. الوفد كان ودوداً مع منظمات المجتمع المدني، وظهر أفراده أشبه بالملائكة. والمدهش أن من بين عضويته ضباط أمن دولة وآخرين من أجهزة سيادية.
الوفد استطاع، باستخدام النفوذ القديم، أن يقيم شبكة من الدول العربية والإسلامية ودول عدم الانحياز لتدافع عن إنجازات حقوق الإنسان في مصر. واستيقظ مندوبو هذه الدول مبكراً لحجز كلمات لتصبح مثلاً أول كلمة من أوروبا رقمها ٢١ في قائمة المتحدثين، حتى إن مندوب إسرائيل قال قصيدة شعر في مستوى حقوق الإنسان في مصر. وفي نهاية الكلمة لم يجد ملحوظة سوى دفع الحكومة المصرية إلى اتخاذ إجراءات لوقف عمليات الختان.
الملاحظات كلها جاءت من أوروبا وتركزت على: إلغاء حالة الطوارئ، تنقية القوانين من المواد التي تسمح بحبس الصحافيين، تعديل المواد الخاصة بالتعذيب، وقف الاعتداءات على حرية التعبير، وقف التمييز ضد المرأة وإلغاء عقوبة الإعدام.
مصر نجحت في تخفيف التوصيات إلى حد كبير، إذ صنعت «غيمة» بدت فيها القاهرة متقدمة في مجال الحريات. مفيد شهاب أكد أن الدولة تعدّ قانوناً جديداً للإرهاب ستلغي معه حالة الطوارئ، وغالباً ما سيتزامن مع أجواء الانتخابات النيابية والرئاسية. ويتوقع الخبراء أيضاً من خلال الأجواء التي سرّبت في موقعة جنيف أن إلغاء الطوارئ لن يكون مفاجأة وحيدة. بل ستتضمن الحزمة تعديل مواد في الدستور (المادة ٧٧ الخاصة بمدة الرئاسة، لكن لن يتمّ تعديل مواد الترشح للرئاسة في المادة ٧٦). وستتضمن أيضاً الموافقة على توصيات المجلس، باستثناء توصية الإعدام والجمعيات الأهلية. وهو رفض لا يفسد عملية التجميل السياسي الذي تمتّ للنظام في جنيف بنجاح معقول جداً.