18% هي نسبة الأطفال الفلسطينيين المتسربين من المدارس، وفق آخر دراسة للأونروا. «زهقنا»، تكاد تكون العبارة الوحيدة التي يعطيها الأطفال سبباً لمغادرتهم المقعد الدراسي. لكن لدى المتابعين التربويين أسباباً كثيرة للتسرب ليس أقلها النجاح الميسّر في المرحلة الابتدائية
فاتن الحاج
غادر محمد صالح (13 عاماً) مدرسة البيرة التابعة للأونروا ولم يعد. كل ما يدركه الفتى أنّه ملّ الذهاب إلى مكان لا يحبه. كفاه «ضياع» 7 سنوات من «عمره»، بين جدران لم يفقه يوماً ماذا كان يدور في داخلها. سنوات لم تكن كفيلة بتعليم محمد حتى مجرد مبادئ القراءة والحساب. اليوم، يكاد، بصعوبة، أن يميّز بين الحروف والأرقام. الشيء الوحيد الذي يتذكره من الصف؟ توبيخ المعلمة له ومغامراته في اللعب والهروب. لا تشير ملامح الصغير إلى عمره، لكن في كلامه ما يوحي بأكثر من ذلك، وخصوصاً حين يستمتع في الحديث عن عمله الجديد. «الحلاقة مصلحة ذهب وعم بتعلمها تحت إيد معلّم عشان عيش»، يقول. والتعليم «ما بخليك تعيش»؟ يتردد الفتى في الإجابة: «مبلى بس زهقت». دقائق وتكتشف أنّ محمد فضّل الحلاقة على مهن اعتاد ممارستها أطفال من عمره مثل: «جبل» الباطون والحدادة والميكانيك والنجارة، لاعتبار واحد «ما بدي وسّخ تيابي، هيدي مهنة خفيفة نظيفة».
يفرح محمد بأسبوعية 10 آلاف ليرة يقبضها كل أحد. يستدرك: «هون قاعد مرتاح. بتكتك للزبون، يعني بس بنظّف الشعر وبرغي الصابون ومرّة حلقت لأخوي بالموس». هل سيأتي يوم ويندم محمد على قراره؟ «هلّق مش عم شغّل مُخي بشي»، يقول.
دعوة إلى إعادة النظر بالترفيع الآلي في المرحلة الأولى
ساعة الندم لم تحن أيضاً بالنسبة إلى أحمد (17 سنة) الذي ترك مدرسته منذ 3 سنوات ويعمل سمكرياً. «حبيت المصلحة وبعد بكير عالندم»، يقول بثقة. أحمد وصل إلى السابع أساسي حيث «تعلمتُ القراءة شوي وأكتب باللغة الإنكليزية على النت». لكن لأبي أحمد كلاماً آخر عن ابنه الذي يعاني من الحركة المفرطة وقلة التركيز وعدم الانضباط. «أحمد ليس غبياً»، يقول الوالد، لكنّه كان يملّ من الدرس بعد 10 دقائق من دخوله الصف، «وقد نصحني الأطباء بمواكبة سلوكه بواسطة اختصاصيين نفسيين وتركه يلعب ويصرخ في ملعب واسع». طبعاً، لم يكن ذلك ممكناً داخل مدارس الأونروا «حيث يصل عدد التلامذة في الصف الواحد إلى 40 تلميذاً»، بحسب أبي أحمد. كما أنّ الأمر كان مستحيلاً في مخيم يضم 20 ألف نسمة في الكيلومتر المربع الواحد. هكذا، ينفي الأب القلق على مصير ابنه، أن يكون سبب التسرب مادياً. ويؤكد أنّه وجد نفسه مرغماً على اتخاذ الخيار الصعب.
يبدو أبو أحمد مقتنعاً بأنّ الأزمة ليست محصورة بولده، بل بجيل كامل بين 12 و15 سنة، «هنا في الحي، على الأقل، 30 فتى خارج المدرسة».
أما السبب الرئيسي فهو «الترفيع الآلي في المرحلة الابتدائية الأولى». تكاد هذه العبارة تتكرر على ألسنة كل من قابلناهم للحديث عن التسرّب المدرسي من أهالٍ وجمعيات مدنية وتربويين.
ويتحدث مدير إحدى المدارس الابتدائية التابعة للأونروا عن ترفيع التلامذة في الأول والثاني الابتدائي إلى الثاني والثالث من دون ترسيب أي من التلامذة حتى لو استحق البعض ذلك، وأنّ نسبة 10% فقط من تلامذة الثالث يعيدون سنتهم الدراسية، أما الآخرون فيُرفعون آلياً حتى ولو لم يكونوا يستأهلون النجاح. ثم تزداد النسبة في الرابع والخامس والسادس لتصل إلى 15%. وبالنسبة إلى صفوف المرحلة المتوسطة، فإنّ نسبة الرسوب تتراوح بين 15 و20%، بحسب مدير إحدى المدارس المتوسطة، وترتفع النسبة أكثر لتصل إلى 30% في الثانوي الأول و15% في الثانوي الثاني.
وتكمن المشكلة الكبرى، وفق تقرير لمنظمة ثابت لحق العودة، في الثانوي الثالث حيث يقدّم التلميذ للامتحانات الرسمية. وعندما يرسب هذا الأخير، لا يحق له إعادة السنة في أي من مدارس «الأونروا»، بل يحصل فقط على إفادة من المدرسة بأنّه درس الثانوي الثالث بتقدير «راسب»، لذا يعيد سنته في مدرسة خاصة حيث الأقساط مرتفعة. ومع مرور السنوات، فإن المصير الحتمي لهؤلاء التلامذة، بحسب المنظمة، هو «التسرب المدرسي، وخصوصاً في المرحلة الابتدائية، والتوجه إما إلى الشوارع حيث البطالة وجمع الخردة وبيعها من جهة، والانحراف مع رفاق السوء من جهة ثانية. ويختار العدد القليل أن يتعلم مهنة في أحد المعاهد التابعة للمؤسسات الأهلية، لكنه يصطدم أيضاً بقرار منعه من مزاولتها».
هنا يتحدث محمد الشولي، منسق العلاقات العامة في مؤسسة شاهد لحقوق الإنسان، عن الأسباب العامة للتسرب، ومنها الواقع الاجتماعي العام الذي يعيشه الفلسطيني نتيجة حرمانه من حقوقه المدنية، وخصوصاً حقه في العمل. هكذا، ينظر التلميذ إلى المتخرجين الشباب فيجدهم إما يعانون من بطالة أو يعملون، بأجور زهيدة، في مهن لا تتناسب واختصاصاتهم ولا يتمتعون بأية ضمانات صحية أو اجتماعية. هذه الحالة تحبط نسبة لا بأس بها من التلامذة، كما يقول الشولي، فيتركون المدارس باكراً باتجاه سوق العمل.
ويضيف الشولي أسباباً خاصة للتسرب، منها ازدحام الصفوف، حتى مع تطبيق سياسة الدوام الواحد. كما تحتاج المنهجية الجديدة (اللبنانية)، بحسب الشولي، إلى مهارات معينة، تفوق مستوى التلامذة الذين لا يجدون من يعينهم على اكتسابها من موجهين للمواد ووسائل توضيحية ومختبرات علمية. وما يتوقف عنده الرجل الدورات التأهيلية للأساتذة التي تنظم خلال الدوام المدرسي، فيغادر هؤلاء الصفوف لفترة قد تتجاوز الأسبوعين من دون تأمين بديل، ما يعوق التحصيل التعليمي.
يعترف وليد الخطيب، نائب مدير التعليم في الأونروا، في مقابلة مع «الأخبار» ببعض الأسباب. منها الوضع الاجتماعي والاقتصادي لللاجئين، المنهج الدراسي الصعب، انخفاض الدافع للتعلم في صفوف الفلسطينيين بسبب قوانين العمل السائدة وتضاؤل الفرص خارج لبنان. كما أنّ بعض المدارس موجودة في مبانٍ مستأجرة غير ملائمة للتحصيل التعليمي. ولا يغفل الخطيب الأوضاع الأمنية في المخيمات التي تسهم في إغلاق المدارس لفترات إضافية.
لكن ماذا فعلت الأونروا للحد من هذه المشاكل؟ هنا يقدّم الخطيب صورة زهرية عن الحلول: «وضعت الوكالة استراتيجية لتدريب جميع المعلمين ومديري المدارس على المناهج الدراسية الحديثة. كما فتحت الأونروا فصولاً علاجية لدعم الأطفال المعرضين لخطر الفشل والتسرب». ويتحدث الرجل أيضاً عن تعزيز الشراكة مع الأهالي والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية لدعم تعليم الأطفال، إضافة إلى تطبيق سياسة «مدارس خالية من العنف» تتضمن دورات لتوعية الموظفين والآباء والأطفال. ولا ينسى الخطيب التذكير بالمباني التي استحدثتها الأونروا على طريق إنهاء نظام الفترتين وتجهيزها بمختبرات العلوم والكومبيوتر والمكتبات وقاعات الموسيقى.
هل ساهم نظام الدوام الواحد في خفض نسبة التسرب المدرسي؟ لا تملك الأونروا أرقاماً واضحة في هذا الموضوع، «لكننا نتوقع أن يقود التحوّل إلى الفترة الواحدة إلى التقليل من ظاهرة التسرب من المدارس التي طالت نسبة 18% للتلامذة التي تتراوح أعمارهم بين 6 و18 عاماً، وفق دراسة في عام 2008».


تعمل الأونروا، بحسب منظمة ثابت لحق العودة، في أوضاع تصل فيها نسبة الأمية بين اللاجئين إلى 25.5%، ونسبة التسرب المدرسي إلى 14% (2005 ــــ 2006). وفي دراسة للمكتب المركزي للإحصاء الفلسطيني بالتنسيق مع اليونيسيف في عام 2009، تبين أنّ «عمالة الأطفال بين 7 و17 سنة وصلت إلى 6.1%. أما العاملون فيمثّلون نسبة 38% من مجموع التلامذة المتسربين من المدارس. ويبلغ متوسط سن العمل للأطفال 13 سنة، ثلثهم يعملون 6 أو 7 أيام في الأسبوع بمعدل يصل إلى 9 ساعات يومياً». في المقابل، بلغت موازنة قسم التعليم في الأونروا حتى 30 آذار 2009 ما قيمته 36.459 مليون دولار.