مراحل الحرق بدأت وحلم التغيير ينتظروائل عبد الفتّاح
«هوجة وتعدي». هكذا ينتظر نظام حسني مبارك أن تتوقف كرة الثلج التي تتدحرج منذ أول إشارة استجاب فيها الدكتور محمد البرادعي للموجة الشعبية

المطالبة بأن يكون مرشحاً للرئاسة.
كانت المذيعة المشهورة متحفزة، وهي تؤكد للدكتور محمد البرادعي: «استقبلك مئات وغاب الملايين، منهم من لم يعرفك أو يسمع عنك».
«هذه نتيجة طبيعية لغياب الديموقراطية أكثر من ٥٠ سنة». إجابة البرادعي صحبتها ابتسامة سخرية من رجل وقور، لا يشبه صورة الزعيم السياسي في خيال المصريين. إنه رجل من خارج اللعبة كلها. يتكلم من دون حسابات. يلمس الجمهور الواعي حريته وعدم خضوعه لقانون التواطؤ المسيطر على الحركة السياسية.
كلام البرادعي كان صادماً بالنسبة إلى جمهور متعطش لخطابات العواصف والعواطف الشهير في معارضة النظام. خطابه حر لأنه لا يخاف الملفات ولا يخضع لغوايات القرب من السلطة.
رجل من خارج «البحيرة الميتة». يمكن أن ينتهي تماماً إذا تحول إلى بطل. ساعتها سيكون بطل من «عجوة» (التمر).
البرادعي وصل إلى مصر في لحظة لا تبحث فيها عن بطل، ولكن عن طريق ليعيش المصريين في بلد «حقيقي»، يجد فيه الإنسان العادي التعليم الجيد والعلاج الجيد، ويستطيع أن يدفع فيه إيجار البيت وحياة آمنة (ماء شرب غير ملوث وطعام صحي ومواصلات آدمية وشوارع تحترم الضعفاء لا الأقوياء فقط وطرق لا تتحول إلى مصائد موت سريع).
هذه حقوق أولية في أي بلد محترم. والكلام الحقيقي في أي حوار بين اثنين من المصريين ليس على تولي السلطة أو من يصبح الرئيس، الكلام يدور فعلاً على خلفية سؤال كبير: ماذا سيفعل الرئيس المقبل في تركة ثقيلة تهلهلت معها مصر وتحولت فيها الحياة إلى أزمات متواصلة من التعليم إلى الغاز؟ ماذا سيفعل الحاكم وحكومته لتجد الأجيال المقبلة فرصاً أفضل في الحياة الكريمة؟ لم يعد المصريون يريدون بطلاً يحملونه على الأعناق وينوب عنهم في تحقيق الأحلام. المصريون دفعوا ثمناً خرافياً في مقابل تحويل الحكام إلى أبطال وآلهة.
هؤلاء الأبطال والآلهة حولوا مصر إلى «شبه بلد»، الحياة فيه معجزة يومية، والأمان غائب مع كل هذا الفقر والفساد الذي تحميه مؤسسة قوية. هذا هو الحلم المنتظر. وظهور البرادعي بصورته البعيدة عن الأبطال والزعماء استجابة خفية لهذه الذبذبات الباحثة عن طريق لا قائد. السؤال المتكرر على البرادعي: هل سترشح نفسك للرئاسة؟ وإجابته لم ترو العطش لكنها مخلصة: «لن أرشح نفسي بالشروط التي تفرضها المادة الـ٧٦ من الدستور. إنها شروط غير عقلانية. كيف لا أستطيع ترشيح نفسي مستقلاً؟».
السؤال مربك للسائل. لكنه يصر: «هل سترشح نفسك؟»، وكأن السؤال يعني «أرجوك ادخل في اللعبة» وإلا فستكون كما يصفونك «هابطاً بالباراشوت» و«محلقاً في السماوات العليا لا يعرف السير في أرض الواقع» أو «يتعامل بالشوكة والسكينة».
وهذه مجازات الرجل الذي يتعامل معه النظام على طريقة «هوجة وتعدي».
فشلت الطلعة الأولى من كلاب الحراسة الصحافية عندما استخدموا أسلحة الهجوم التقليدية (الشتائم والاتهامات بالخيانة والعمالة لأميركا). أسلحة افتقدت الملفات المعتادة وأتت برد فعل عكسي وأضافت شعبية للبرادعي، فاستمع النظام إلى سيناريوات بديلة. وأخرجت عناصرها النائمة في الصحافة والإعلام نفذت بها مراحل «حرق البرادعي»، أولاً عبر نشر رسالة تخويف من الاستقبال «لن نرحم من يقترب من المطار».
المجتمع بعد غياب أكثر من 58 سنة يحاول أن يستعيد قوته الغائبة والمغيبة بوضع الأمل على شخص من خارج حركة سياسية ميتة إكلينيكياً.
وضع الأمل في البرادعي هو إعلان مباشر برفض الموت السياسي وكهنته الموجودين في كل الأحزاب. وهذا سر عدم وجود ممثلين لهذه القوى السياسية يوم الاستقبال. لا «الإخوان» ولا «الناصريون» ولا اليسار ولا أي حزب علني (باستثناء الحزب الدستوري).
الغياب علامة على استياء غير معلن يصل إلى حد قبول الصفقات السرية المعتادة مع النظام، وفي مقدمتها هذه الأيام توزيع مقاعد مجلس الشورى.
النظام أيضاً استطاع إيقاظ تحالفاته مع الصحافة باتصالات وتربيطات وتصاريح بصحف جديدة استعداداً لسنة الحسم الانتخابي.
لماذا تسرب الآن فقط (إلى صحف مستقلة أيضاً) خبر ترشيح مبارك لانتخابات 2011؟ ولماذا أعلن ترشيح أسماء من المعارضة (أيمن نور وحمدين صباحي) قبل وصول البرادعي بأيام؟
البرادعي ليس سياسياً، بل هو نتيجة حركة مستمرة منذ سنوات باتجاه «عودة السياسة» إلى المجتمع المصري. حركة تخترق الحواجز والترسانات بصعوبة بالغة وبتضحيات غالية، وتنتقل من «الاحتجاج» إلى محاولة «الاختيار». انتقال صعب، وخصوصاً مع «تجريف» الحياة السياسية بالصفقات الانتهازية مع الأحزاب وتحويل العمل السياسي إلى عملية انتحارية لا يقدم عليها سوى الفدائيين.
البرادعي فرصة، لكنه ليس نهاية الطريق. إنه البداية لتغيير المسار. هو يصارع فكرتين كبيرتين. خلف كل منهما مجموعات مصالح وجيوش محشودة. الأولى لا تريد للنظام بديلاً، والثانية تبحث عن بديل مكتمل للنظام. والبرادعي غالباً لا يمكنه أداء دور «البديل».
إنه مع اتجاه أفضل: تغيير قواعد اللعبة لكي لا يصبح تغيير رأس النظام هو التغيير. ولكي لا تنتقل الرئاسة من فرعون إلى فرعون (استخدم هو تعبير الفرعون لوصف حكام مصر من بعد الثورة)، وهذا ما يفهمه الجميع (من معه ومن ضده) لكن ببطء.


تحالف مع موسى!

القاهرة ــ الأخباروفيما تجنب البرادعي التصريح بعد اللقاء، قال موسى: «تحدثنا عن الوضع النووي في منطقة الشرق الأوسط والوضع عموماً في المنطقة والمجتمع المصري والحركة العامة فيه».
وعما إذا كان اللقاء قد تطرق للوضع الداخلي في مصر، أوضح موسى أن «هناك حديثاً عن حاضر مصر ومستقبلها، وهذا مشروع للكل أن يتحدث فيه».
ومن المنتظر أن يجتمع البرادعي اليوم مع ممثلين عن جميع المدارس الفكرية التي ترغب في توجيه بعض التساؤلات إليه ومعرفة خطواته التالية في ظل المطالب الشعبية التي تدفعه إلى الترشح لانتخابات الرئاسة المقبلة.