لم يكن دور الإعلام الإسرائيلي خلال العدوان على قطاع غزّة مجرّد ناقل للخبر، بل شارك أساساً في التعتيم الإعلامي الذي فرضه جيش الاحتلال على عملياته وعديد الضحايا الذين يسقطون من الطرف الفلسطيني، حتى إنه أدى دوراً تحريضيّاً ضد المدنيين في القطاع، إلى درجة أن أحد المعلّقين الإسرائيليين وصف إعلام الدولة العبرية بأنه «حيوان أليف للجيش»
مهدي السيّد
جرت العادة على مقاربة أداء وسائل الإعلام الإسرائيلي من منطلقين اثنين، يرى الأول في وسائل الإعلام هذه مجرد بوق دعائي، ومنظومة إعلامية لا تختلف في وظيفتها عن الوظيفة الموكلة إلى سائر المؤسسات الإسرائيلية في كونها أداة لخدمة المشروع الصهيوني وأهدافه. ويرى الثاني أن وسائل الإعلام في إسرائيل تُعدّ منابر للتعبير عن حرية الرأي وعن المواقف المحايدة والموضوعية، تُحرّكها الاعتبارات المهنية المجردة والمنطلقة من المبادئ المرتبطة بقيم الحرية والديموقراطية.
وإذا كان الدخول في هذا النقاش يطول ويتشعّب للعديد من الاعتبارات، إلا أنه يمكن القول إن وضع وسائل الإعلام الإسرائيلية على محك الاختبار في المفاصل المهمة والأساسية التي واجهتها إسرائيل، ولا سيما في سياق الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، يُظهر بوضوح الصورة العارية تماماً للإعلام الإسرائيلي عن كل أنواع التجرد والموضوعية والمهنية. اختبار يؤكّد تجنّدها التام والمطلق إلى جانب المستويين السياسي والعسكري، لا بل تصدرها جبهة الصراع وحثّ هذين المستويين على مزيد من التطرف والتشدد في الخيارات والأساليب العنفية المتبعة ضد العرب.
ثمة شبه إجماع في إسرائيل على أن أداء وسائل الإعلام لم يكن مهنياً ولا موضوعياً
الشواهد التاريخية على هذه الحقيقة عديدة، وآخرها الدور الإعلامي ـــــ الحربي، التضليلي والتحريضي، الذي أدته وسائل الإعلام خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة العام الماضي. هذا الدور كان على قدر كبير من الخطورة والأهمية، انطلاقاً من الحيّز الكبير جداً، كمّاً ونوعاً، الذي باتت وسائل الإعلام تشغله في مساحة الحروب والتأثير على مجرياتها ونتائجها، وهو ما تتضاعف قيمته وأهميته في ظل المكانة القوية لوسائل الإعلام في إسرائيل، وتأثيرها الفعال على الرأي العام وصُنّاع القرار على حدّ سواء. ويمكن القول إن وسائل الإعلام هذه تُعدّ في إسرائيل سلطة بكل ما للكلمة من معنى.
ثمة شبه إجماع في الدولة العبرية على أن أداء وسائل الإعلام الإسرائيلية خلال العدوان على غزة لم يكن مهنياً ولا موضوعياً ولا محايداً، بل كان متجنّداً تماماً لخدمة أهداف العدوان، ويمكن القول إنه مارس مهمة ثلاثية الأبعاد: التحريض، التعتيم والتضليل.
التحريض على مزيد من العنف والفتك والقتل، من خلال دعوة قسم كبير منها إلى ضرورة توسيع العدوان وعدم التنازل واحتلال القطاع والقضاء على حركة «حماس». التعتيم على حقيقة ما يجري على الأرض وعلى حقيقة ضحايا العدوان من المدنيين. والتضليل من خلال تعمية الحقائق وتبني رواية الناطق باسم الجيش الإسرائيلي والادّعاء بأن غالبية الشهداء الفلسطينيين هم من غير المدنيين، وحتى تحميل المدنيين مسؤولية مقتلهم.
ولا بد من الإشارة إلى أن الدور الإعلامي كان طوعياً وإرادياً في معظم الأحيان، وكان قسرياً ومفروضاً في أحيان أُخرى. بمعنى أن عدداً كبيراً من المراسلين والمعلقين ومن وسائل الإعلام أدّوا دور «الحيون الأليف» للجيش الإسرائيلي بإرادة تامة منهم، بينما أدى قسم آخر هذا الدور مُرغماً، سواء من خلال حجب الحقائق عنه ووضع القيود والموانع أمام حصوله عليها، مثل منع الدخول إلى مناطق القتال وما شابه، أو من خلال منع نشر التقارير والمعلومات التي قد يحصل عليها هؤلاء بحجة أنها تلحق الضرر بالمصلحة الأمنية والسياسية، وإبقاء سيف الرقابة مصلتاً فوق رؤوسهم والتلويح به لمنعهم من تجاوز الخطوط الحمراء الإعلامية المحددة من قبل الرقابة العسكرية.
يمكن القول إن العبارة الأجمل التي وصّفت حال وسائل الإعلام الإسرائيلية وأدائها خلال العدوان على غزة هي تلك التي كتبها عوزي بنزيمان في «معاريف» ( 8/1/2009) بقوله إن «السياسة الإعلامية كانت منسّقة وكذا وسائل الإعلام التي أدت دورها كحيوان أليف للجيش».
وفي محاولة لتبرير هذه الممارسة، ثمة من ردّها إلى الدروس المستخلصة من الحرب على لبنان في عام 2006، من قبل وسائل الإعلام والرقابة العسكرية على حد سواء.
وفي هذا المجال، كتب معلق الشؤون الأمنية في «هآرتس»، يوسي ملمان، تحت عنوان «وسائل الإعلام في سجن الجيش الإسرائيلي»، يقول إن «الجيش يمنع في معظم أيام الحرب الصحافيين من الدخول إلى غزة من أجل تغطية ما يجري فيها. وبدل انطباعات مستقلة ومن دون واسطة، يحصل الجمهور على تقارير جزئية خضعت للتفتيش ولغربلة الرقابة العسكرية والناطق العسكري». وأضاف أن سياسة «كمّ الأفواه» التي يعتمدها الجيش هي رد فعل لحرب لبنان الثانية.
وبحسب ملمان، فقد انعكست العبرة التي استخلصها الجيش من الانفتاح الزائد في حرب لبنان الثانية في اعتماد الخيار المتطرّف الآخر: حيث تقرّر منع الإعلامين الإسرائيلي والعالمي من أن يقوما بواجبهما.
وقال تقرير أعدّه مركز «كيشف» (مركز حماية الديموقراطية في إسرائيل) إن تغطية وسائل الإعلام الإسرائيلية للعملية العسكرية في غزة تنطوي على سمات ظهرت، في جزء منها، في تغطية حرب لبنان الثانية. وأضاف أن «التغطية اتسمت في الحالتين بشعور من عدالة الحرب، وبمظاهر تنفيس في أعقاب ما اعتبر أنه ضبط نفس زائد (من جانب إسرائيل) حيال «اعتداءات» العدو، وبدعم إعلامي كامل لعمليات الجيش الإسرائيلي مع القليل من مظاهر النقد».
وتابع التقرير: «على غرار تغطية الأيام الأولى لحرب لبنان الثانية، يبدو في هذه المرة أيضاً أن الصحافة المطبوعة في إسرائيل لا تطرح أسئلة بشأن ضرورة العملية العسكرية في قطاع غزة، بل تدعم وتؤيد قرار شنّها». وأضاف «تماماً كما في تلك الحرب، فإن العناوين (في هذه المرة أيضاً) تؤكد نشوة المتحمسين للقتال».
وسائل الإعلام الإسرائيلية اختارت أن تُغمض عينيها وأن تطلق النار في الهواء
وأشار تقرير «كيشف» إلى أن وسائل الإعلام في إسرائيل، ولا سيما المراسلين والمعلقين العسكريين، يُعدّون تقارير عن مجريات القتال، استناداً إلى معلومات ينقلها إليهم المتحدث باسم الجيش، حيث ينقلها هؤلاء من دون أي تدقيق بصحتها، ومن دون أي انتقاد لها، وهو ما يدلّ، بحسب المصدر نفسه، على الإشكالية الكامنة في طبيعة التغطية الإعلامية الإسرائيلية لحرب غزة، ولا سيما قتل المدنيين. ويخلص إلى القول إن وسائل الإعلام في إسرائيل قبلت من دون أي تشكيك تقريباً برواية الجيش الإسرائيلي وبالمنطق الذي يقف خلفها، داعياً إلى ضرورة مطالبة المحررين والمراسلين والمحللين في وسائل الإعلام الإسرائيلية، بالحرص على مسؤوليتهم المهنية والمدنية.
وفي السياق، نشرت مجلة «العين السابعة» الخلاصة التي خرجت عن مؤتمرين أكاديميين عُقدا في إسرائيل، مركز بورداه والقسم الإعلامي في جامعة بن غوريون، وخُصّصا لمناقشة أداء وسائل الإعلام الإسرائيلية خلال العدوان على غزة.
وجاءت الخلاصة، بحسب المجلة، كالآتي: «وسائل الإعلام الإسرائيلية اختارت أن تُغمض عينيها وأن تطلق النار في الهواء، فيما اختارت الحكومة إغماض أعين الصحافيين الأجانب وإطلاق النار على قدمها».
ومن الخطوات الهادفة إلى التعميم والتضليل، تجدر الإشارة إلى أنه قبل أن تشنّ الحرب، أنشأت إسرائيل، في مدينة سديروت، مركزاً إعلامياً متعدد اللغات، رأت أنه يكفي لتزويد الصحافيين بما يريدون من أخبار وصور وأشرطة فيديو وباللغة التي يفهمونها. وكلفت مجموعة من الخبراء مسؤولية ترويج وجهة النظر الإسرائيلية باكراً كي تكون الأرض جاهزة عندما تبدأ الحرب. وعندما اندلعت الحرب، منعت إسرائيل دخول الصحافيين الإسرائيليين والأجانب إلى غزة. وهكذا لم يعد للإعلاميين سوى خيار البقاء مع الجيش الإسرائيلي في المركز الإعلامي أو بعيداً منه من دون الدخول إلى غزة.
ومن الأمثلة البارزة على الأدوار المشينة التي قام بها إعلاميون إسرائيليون، ما فعله معلق الشؤون العربية في التلفزيون الإسرائيلي، إيهود يعري، عندما لفت نظر جهاز الأمن العام الإسرائيلي «الشاباك» إلى المخالفة المنسوبة إلى مراسل تلفزيون «العالم» خضر شاهين. إذ اتصل يعري بالسلطات الأمنية وقدم لها شريطاً مسجّلاً يظهر فيه تقرير شاهين عن تحرك القوات الإسرائيلية باتجاه قطاع غزة قبل أن تأذن الرقابة العسكرية بنشر خبر التحرك، ما استدعى اعتقال شاهين ومحاكمته.


رئيس تحرير عام

من أبرز الأصوات المعترضة على التعتيم الذي فرضه الجيش الإسرائيلي على الإعلام، كان محرر النشرة الإخبارية في التلفزيون الإسرائيلي، إيتي لاندسبرغ، الذي تساءل «ما الذي يخفيه الجيش الإسرائيلي في الرصاص المصهور؟ لماذا لا يجري المقاتلون والضباط مقابلات صحافية؟».
تساؤل طال تحديداً الناطق باسم الجيش، إذ قال لاندسبرغ «لماذا هو نفسه فقط الذي يظهر على الشاشات؟ هل يجدر به السيطرة على الرواية التي هو بنفسه كتبها لنفسه؟ لماذا ليس للمراسلين الإسرائيليين تصريح بالدخول إلى مناطق القتال؟ لماذا لا يمكن تقريباً حتى إجراء مقابلات مع جنود جرحى؟ أو حتى جنود في التدريب؟». وتابع «على ما يبدو، يرى الناطق باسم الجيش الإسرائيلي نفسه خلال عملية غزة رئيس تحرير لكل وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية».