تتقن المؤسسة الإسرائيلية المفارقات أينما حلّت. تبني حاجزاً ضخماً تعبّد الطريق إليه، لكنها تمنع المرور منه وتغلقه أمام الملايين وتصمّم على تسميته «معبراً». تكتب لافتة تفاؤلية وترحيبية من دون أن تنسى كلمتي «أهلاً وسهلاً». لا أحد يعرف لماذا يصمّم هؤلاء على «الترحيب»، فيما لا يُقرأ المكتوب من عنوانه
فراس خطيب
عند حاجز إيريز على حدود قطاع غزة، وفي مكان بعيد عن الحضور الذي جاء لإحياء الذكرى الأولى للعدوان، وقف شابٌ ياباني يحمل لافتةً زرقاء، كُتب عليها بالعربية «نعم لحق العودة». لم يعايش الشاب الصراع، بل درسه عبر الورق من بعيد. بالنسبة إليه، حق العودة أمر بديهي، ويتعجب «لماذا لا يعود هؤلاء إلى ديارهم؟». قد يكون السؤال بديهياً أيضاً في بلاد تعرف معنى الحقوق، لكنّ الإجابات تختلف في بلاد الجدران والحواجز. الشعار الذي يطالب بحق العودة يحمل معه بعد مرور السنوات مآسي أكبر، ثقيلة من شدّة الصراع، لتجد جزءاً كبيراً من اللاجئين الفلسطينيين في القطاع يحيون عدواناً، ويطالبون بفك الحصار عنهم بعد 61 عاماً من تهجيرهم.
حاجز «إيريز» أو «معبر ايرز» كما تقول اللافتات، تغيّر كثيراً. صار مثل مطار دولي متطور. مبناه الجاثم يمنع «الزائرين» (غير المرغوب فيهم) من إلقاء حتى نظرة إلى بلاد ما بعد الحاجز. من يقف في ساحة الإسفلت القريبة الواسعة منه، وينظر جنوباً، لن يرى سواه. مبنى مثل كتلة تحجب الأفق. عند هذا الحاجز، ينتهي عالم تحياه، ويبدأ آخر يبتعد عنك أمتاراً لكنّك ممنوع من رؤيته منذ سنوات. عليك العودة من حيث أتيت. ثلاث أو أربع ساعات من السفر، لتجلس قبالة إحدى الفضائيات الدولية (القليلة) وتنقل صورةً من ذلك المكان الذي كنت فيه ولم تره.
ما يقارب ألف إنسان أو أقل، من فلسطينيي الـ 48، في اليوم الأخير من العام الماضي، أحيوا ذكرى العدوان على غزة للتعبير عن التضامن مع فلسطينيي القطاع القابعين في الطرف الآخر من الجدار. رياح شرقية، برد وقليل من الشمس. والجمع الذي أتى من المدن الفلسطينية في الداخل يبدو صغيراً في تلك الساحة الكبيرة أمام جمع الوحدات الخاصّة وضخامة الحاجز المهيمن على الموقف.
كانت هتافات الجمع تحاول اختراق الجدران والعقلية التي اختلقته وتطالب برفع الحصار عن «شعب لم ير يوماً أبيض». وهتافات أخرى، ارتطمت بالريح لتبدّدها العاصفة في السهل المجاور. كان التحدي واضحاً في عيون المشاركين، لكنّ المأساة التي لم يشاهدها أحد من الحضور كانت أقوى بفعل العزلة، فمن يقترب من قطاع غزة يشعر بعزلته عنها.
كان حضور فلسطينيي المدن المختلطة، وبالتحديد يافا واللد والرمل قوياً. إضافة إلى نساء جئن من الشق المقدسي وردّدن شعار: «من القدس العربية لنصرة غزّة الأبيّة». عدا عن النشطاء من الأحزاب الفاعلة على الساحة. قالت امرأة مقدسيّة إن «الفلسطينيين في كل مكان يعيشون حصاراً. نحن في القدس نعاني، لكن هذا لم يمنعنا من التضامن مع إخوتنا حتى يكسر الحصار. لن يظل شعبنا رهينة للحصار». ولم يوفر القادة السياسيون إدانة «العمل البربري الذي استهدف شعباً أعزل».
عدد قليل من أهالي الأسرى كانوا كعادتهم موجودين في كل مكان. قضيتهم تبدأ من أكبادهم، ولا تنتهي عند حدود الحاجز. يحملون صوراً لفلسطينيين قابعين بين أسوار أخرى. لكن رغم تنوع الحضور وصدق قضيته، إلا أنه لم يرتق إلى مستوى التحدي في الذكرى الأولى. فالحال التي انهار إليها القطاع تستدعي ردّة أقوى. أحد المتظاهرين بدا متفائلاً. قال «كل نشاط هو مبارك»، مضيفاً أن «حضور الشباب القوي يظل بصيصاً للأمل. فالقصة التي بدأت قبل عقود لن يذلّلها حاجز ولا عدوان».
في مثل هذا اليوم قبل عام، اشتعل العالم تضامناً مع غزّة. كان التضامن مع الحدث أقوى بفعل الحدث. المشاهد التي تناقلتها الفضائيات التي سمح بدخولها، عرّت إسرائيل وفضحت نياتها. عشرات الآلاف في كل مكان ساروا على وقع المدافع. قد يكون من الطبيعي، بعد هدوء الجمر، أن يكون التضامن مع القطاع أخفّ بفعل الوقت. ومع هذا، فإن التضامن لا يزال متواضعاً، عربياً وفلسطينياً. غزة اليوم تتصدر العناوين فعلاً في كل مكان، لكن وضع أهلها لم يتبدّل. «غولدستون» الذي صار ركناً للمتضامنين، كشف عن النيات الإسرائيلية، لكنّه لم يساهم في تحسين أوضاع من يعيشون في الخيام. كما أن «ستاتوس» الفيسبوك (كلّنا غزّة)، لم ينقذ القطاع من عزلته الدائمة. أهل غزّة، وحدهم، هم كل غزّة.
القصة ليست غزّة وحدها. إنها حالة يعيشها الفلسطينيون. تساءل أحد الحضور: «ما الذي حصل؟ لماذا مثلاً هبّ البشر ذات يوم على مجزرة قتل فيها سبعة عمال فلسطينيين (في عام 1990 نفذها عامي بوبر) في ريشون لتسيون، ويكتفون اليوم بلعنة القدر حين تدخل قوة إلى قلب منطقة (نابلس) من دون رادع وتغتال ثلاثة نشطاء وتخرج وكأن شيئًا لم يكن». ما الذي حصل؟ سؤال يلوح في أفق الاحتجاج دائماً.
تقف هناك وتستعيد تاريخ هذا المكان. فالانتهاكات لم تتوقف قبل الحصار ولا بعده. لم تتوقف الدولة العبرية عن استغلال الغزيّين في تلك المنطقة المسمّاة «إيريز». على مقربة من مكان التظاهرة، كانت هناك منطقة صناعية سمّيت «منطقة صناعية ايرز»، عمل فيها آلاف الفلسطينيين من سكان القطاع، لكنّها خالية اليوم من كل شيء. أغلقت بعد «فك الارتباط». واتضح من خلال الفحص الذي أجرته نقابة «صوت العامل» في الناصرة أن غالبية المشغلين والمصانع الإسرائيلية حصلت على تعويضات من الحكومة الإسرائيلية، بما فيها مخصصات تعود للعمال الغزيين كحق لهم في التعويضات نتيجة إغلاق المصانع في ايرز، غير أن هذه المخصصات لم تصل حتى اليوم إلى أيدي الفلسطينيين الغزيين القابعين تحت الحصار.
قبل أن تذهب، الطقس يصبح أكثر برودة عند الحاجز. الناس يغادرون المكان ويتركون عاماً على القطاع. ما قيل عن غزة، «السجن غير المسقوف»، ليس شعاراً. عندما تقف عند ايرز «المغلق دائماً»، سيكون ذلك الوصف أول ما تتبناه. وقبل أن تذهب، يعدك المشهد بمزيدٍ من المفارقات، حين ترى رجلاً بدوياً يجلس وحيداً في خيمة اعتصام تطالب بـ«إطلاق سراح جلعاد شاليط».