Strong>بين عدواني تموز 2006 و«الرصاص المصهور» 2008، كان هناك استخلاص للعبر. استخلاص لا علاقة له بالمعارك الإسرائيلية والتصدّي الفلسطيني أو اللبناني، بل في العلاقات العربية ـــــ العربية، التي عاشت ذروة من الانقسام خلال العدوان على لبنان، وعادت إلى ما يشبه المصالحة بعد الحرب على غزة. مصالحة ناقصة، لكنها لا تزال صامدةربما لا يكون من المبالغ فيه القول إن حال الوئام العربي الحالي، القائمة خصوصاً بين أقطاب أساسية في ما كان يعرف بمعسكري «الاعتدال» و«الممانعة»، هي وليدة العدوان على قطاع غزّة. إيجابية لعلّها وحيدة نتجت من الحرب المدمرة التي شنّت على القطاع، تمثّلت بفتح قنوات اتصال كانت مغلقة لسنوات بين دول عربية أساسية في المنطقة، على عكس ما كان عليه الأمر خلال العدوان على لبنان في 2006، الذي أحدث شقاقاً عربيّاً واسعاً، كان قد بدأ مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
بين تصريحات وزير الخارجية السعودي، سعود الفيصل، في أثناء الحرب على لبنان، وكلام الملك عبد الله بعد العدوان على غزّة، فارق كبير. فارق صنع التحولات الكبيرة في السياسات العربية، التي أوصلت إلى ما يمكن تسميته محاولة لـ«صياغة معادلة جديدة في العلاقات العربية».
الفيصل في عام 2006 كرّس القطيعة بين معسكري «الاعتدال» و«الممانعة» حين انتقد عملية الأسر التي قام بها حزب الله، وهاجم «المغامرين»، الذين عليهم أن «يتحملوا مسؤولية أعمالهم». كلام كان بداية لأزمة عربية ـــــ عربية، أبطالها السعودية ومصر من جهة، وسوريا وقطر من جهة ثانية، من دون أن تغيب باقي الدول العربية عن المحاور، وإن بقي دورها خافتاً في الصراع العربي.
صراع شهد محطات تصعيد عديدة، ميدانياً وسياسياً، بدءاً من خطاب الرئيس السوري بشار الأسد بعد حرب تموز عن «أشباه الرجال»، مروراً بفشل مراحل المصالحة الفلسطينية، وصولاً إلى أحداث السابع من أيار اللبنانية. كلها أحداث كانت على ارتباط وثيق بتعقيدات العلاقات العربية ـــــ العربية.
وحتى خلال العدوان على قطاع غزّة، فالمصاب الجلل لم يسمح بوضع العرب في خانة واحدة. «قمة غزّة» كانت خير تعبير عن ذلك؛ فبعد أسبوعين على بداية الحرب، دعت قطر إلى قمة عربية طارئة لبحث الأوضاع في القطاع. دعوة ووجهت بتعقيدات بيروقراطية على اعتبار أنها تحتاج إلى نصاب عربي للموافقة على عقدها. النصاب تراوح بين الاكتمال وعدمه، فما إن يكاد يتم حتى ينقص بفعل الضغوط التي مورست على العديد من الدول التي أعلنت موافقتها في البداية. وعلى أساس هذا الواقع خرج أمير قطر، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني في خطاب متلفز نادر ليطلق عبارة «حسبي الله ونعم الوكيل» الشهيرة.
في ذلك الحين، كانت مصر والسعودية بطلتي محاولات الإفشال، ولا سيما بعد الدعوة المستعجلة التي أطلقتها الرياض لقمة خليجيّة، سعت خلالها إلى إقناع قطر بتأجيل القمة التي كان من المقرر أن تعقد في السادس عشر من كانون الثاني 2009، على أساس أن وضع غزّة من الممكن أن يتم بحثه في القمّة الاقتصادية العربية في الكويت، التي كانت مقررة في التاسع عشر من الشهر نفسه.
ورغم ذلك، كانت الدوحة على موعد مع قمّة عربية غير رسمية، حضرها 12 زعيماً، تقدّمهم الرئيس الأسد والرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة والرئيس السوداني عمر البشير. التصويب في خطابات القمّة كان على المبادرة العربية، وبالتالي على السعودية. ودعا بيانها الختامي إلى تعليق المبادرة ووقف كل أشكال التطبيع مع إسرائيل.
حال الشرذمة العربية كانت لا تزال قائمةً خلال العدوان على غزة، والمؤشرات كلها كانت تدلّ على قمة عاصفة في الكويت، وربما مشادّات علنية على غرار ما حدث بين الملك عبد الله والزعيم الليبي معمر القذافي قبل سنوات. غير أن أياً من هذا لم يحدث. فالقمّة تحولت إلى «قمة مصالحة»، بعدما فاجأ الملك السعودي الحضور بإعلانه «تجاوز مرحلة الخلاف» بين العرب، و«فتح باب الأخوّة العربية والوحدة لكل العرب من دون استثناء أو تحفّظ».
إعلان تلاه مباشرة لقاء خماسي جمع قادة السعودية ومصر والكويت وقطر وسوريا في مقر إقامة الملك عبد الله. اللقاء كان بداية الانفتاح العربي العربي، أو على الأقل الانفتاح السعودي السوري، الذي يعيش ذروة تجلّياته في المرحلة الحالية، وانعكاساته كانت واضحة لبنانيّاً.

مصر منفردة

وحدها مصر بقيت خارج الصورة التصالحيّة، رغم السعي السعودي إلى إشراكها عبر القمّة الرباعية التي استضافتها الرياض في 11 آذار الماضي، وجمعت قادة مصر وسوريا والكويت، إضافة إلى الملك عبد الله. إلا أن القاهرة أصرّت على البقاء خارج المشهد، بعدما قاطع رئيسها القمّة العربية الدورية في الدوحة في نهاية الشهر نفسه، بذريعة التهجّم الإعلامي من قناة «الجزيرة» على النظام المصري. ذريعة ظاهرية، باطنها الامتعاض المصري من سعي الدوحة إلى أداء دور في الملفات التي تحتكرها، ولا سيما الملفين الفلسطيني والسوداني، التي سعت قطر إلى الوساطة فيهما.
الأمر نفسه بالنسبة إلى سوريا، فلا يزال النظام في مصر يعيش حال القطيعة مع دمشق، أيضاً على خلفية الملف الفلسطيني، ولا سيما أن القاهرة تتهم العاصمة السورية بعرقلة مساعيها للمصالحة بين الفصائل الفلسطينية.
ورغم التغيّب المصري، فإن حالة الوئام العربية الطارئة لا تزال قائمة، تحكمها ربما هواجس من تسلّل «آخرين» إلى الداخل العربي، أكثر من «الوحدة والمصير».