Strong>وائل عبد الفتاحالبكاء والنوستالجيا الحارقة هما الرد العاطفي على كل فتنة بين المسلمين والمسيحيين أو حوادث التحرّش على الحدود مع الأشقاء. والبكاء هو إنذار مؤجل بعاصفة تنام عليها مصر وتخفي شيخوختها. والمؤلم أنها في هذه الشيخوخة تقنع الجميع بأن الزمن لم يتغير وجمالها لم يتآكل بعد

الحنان المفقود على الجدار



الرصاصات الغامضة قتلت الجندي على الحدود. الغموض لا يتعلق فقط بمن أطلق الرصاص؟ «حماس» كما رددت أجهزة مصرية؟ إسرائيل كما توقع أصحاب نظرية المؤامرة؟
الرصاص هو الدويّ الصاخب لإيقاعات متداخلة تتزاحم في صالة مفتوحة، واسعة، لكنها تضيق بالتداخل المريع غير المنظّم لصدى إيقاعات تتجاوز حدود المعبر وتحوّله إلى رمز. لا مجرد ممرّ عبور بين قطاع محاصر في فلسطين ومصر الشقيقة الكبرى أو الدولة القائدة أو مهبط الحنان العربي المباشر على فلسطين والفلسطينيين. من منطق الحنان كانت انتظارات أهل غزة أقوى بكثير مما يقدر عليه نظام مبارك المرتبك والمحترف في نسج شبكة علاقات معقدة. خيوط رفيعة يسير عليها في توازن لا يستطيع إقناع أحد به. موقف نظام مبارك من المعبر غير مقنع بالنسبة إلى شرائح من المصريين، الذين لا يزالون على درجة التعاطف نفسها مع «الأشقاء» و«قضيتهم» المركزية. هؤلاء متأثرون بتاريخ «الحنان السياسي» الذي منحته الأنظمة المصرية للقضية وغزة على وجه خاص، أولاً لأن الحدود السياسية قسمت عائلات بين مصر وفلسطين. وثانياً لأن سنوات الإدارة المصرية للقطاع تركت تاريخاً من مشاعر بين الارتباط العاطفي وحزازات سوء الإدارة.
الموقف غير مقنع أيضاً بالنسبة إلى المتمردين على التاريخ العاطفي والسياسي لعلاقة مصر بالقضية الفلسطينية، والذين يرون أنها «الرابط الأخير» لمصر بالعروبة، التي يرون فيها سرّ تخلف مصر وتراجعاتها الحضارية. هؤلاء ينظرون إلى الموقف المصري المتردد بين إقناع «الأشقاء» وعدم إثارة إسرائيل على أنه «رقص على السلالم». والحلّ من وجهة نظرهم فصل الأمن القومي المصري عن محيطه العربي، وإغلاق البوابات والمعابر نهائياً. يبدو الموقف معقّداً بالنسبة إلى نظام مبارك الذي يعتمد أسلوب «إدارة» الملف لا التفكير فيه. النظام لا يريد ترك القضية لأنها أحد أسرار البقاء والقوة في محيط عربي. كما أنه لا يريد أداء الدور القديم نفسه (لا الحنان ولا حتى القسوة). يريد فقط الاستمرار في موقع الإدارة، لكن بمفهوم غير واضح لأحد. «حماس» تعاملت بالطاقة القصوى لانتظار الحنان، وسمحت لعناصرها باقتحام السور «الصفيح» وحطّمت الحدود. لمست الوتر الحساس. وضعت الماء البارد على جرح ممتد من أيام كامب ديفيد، وربما قبلها في حزيران ١٩٦٧، حين اتهمت الدولة المصرية بعدم سيطرتها على الحدود وتفريطها في السيادة، مرة بالحرب ومرة بالسلام. المساس بغريزة من غرائز الدولة وضع «حماس» في مسافة أبعد من الأشقاء وأقرب الى الخصوم، وأقام حواجز غير مرئية بينها وبين القضية لفلسطينية. أصبحت «حماس» شيئاً منفصلاً بالتدريج، ومعها قطاع غزة.
الانفصال تمّ بلعبة إعلامية روّجت لتسميات «حدود مصر مع غزة»، وخطّطت حدودها السياسية «حكومة حماس»، لتربط بينها وبين أجندات إقليمية (إيرانية غالباً وسورية أحياناً).
هذه لعبة سرية في تغيير إحداثيات هوية نظام مبارك من دون فقدان للعناصر الأولى، بل وضعها في علاقات تجاور مثيرة للتأمل: النظام يحتفي بالعروبة باعتبارها انتماء لا رجعة فيه، ويسمح بتسريب خطاب ضد العروبة والقومية، على اعتبارها مصدر الشر وسبب النكبات والنكسات وأصل كل الأزمات من الفقر إلى الديكتاتورية.
عروبة ضد العروبة. وتمسك بموقع القيادة من دون قيادة فعلية. وتعلّق بالتاريخ الى حد إثقال اللحظة الراهنة بالمزايدة، إلى حد لم يعد السؤال: كيف نواجه إسرائيل معاً؟ ولكن: هل نسي العرب دور مصر؟
أصبحت مصر محوراً مضاداً، وقيمة مسحوبة من حسابات الصراع المعقدة للغاية. لم يعد وجودها ملهماً. اكتفت بالضرورة اللوجستيه (الوجود على الحدود) والتاريخية (ثقلها في القضية). لا يتمتع طرف عربي بهذا الثقل التاريخي والوجود الجغرافي، وهو ما حجز مساحة انتظار دائم للقرار المصري.
الانتظار لم يعد للحنان القديم فقط، بل للبحث عن حلول مع أطراف صعبة. نظام مبارك البارع في تشبيك العلاقات لا يديرها بالكفاءة نفسها. الكفاءة غائبة عن الإدارة المصرية لأنها بلا أفق. أسيرة اللحظة. يديرها عقل الأزمات. لا يرى سوى الخروج من المطبات. والسيطرة على أكبر عدد من الأوراق.
المعبر ورقة في يد نظام مبارك تحولت الى رمز لهويته. التحول لم يكن مسيطراً عليه أو بإرادة خالصة. لكنه فلتان إدارة التوازن الهش. هل كانت أنفاق رفح بعيدة عن قبضة النظام؟ وهل جدار الفولاذ إعادة للقبضة الأمنية المصرية؟
أسئلة إجاباتها جاهزة عند أجهزة الترويج للنظام: إنه الأمن المصري. وهذه خطوط حمراء لا يمكن الاقتراب منها. ومن يعترض فإنه خارج عن الأجندة المصرية ويعمل لمصلحة أجندات معادية.
الفولاذ والأنفاق، كل منهما شكل من أشكال السيادة المصرية. يتحرك بإيقاع غريزي، لا بأفق سياسي. لا أحد يعرف لماذا عملت الأنفاق بكامل نشاطها لفترات طويلة؟ ولا ماذا سيفعل الفولاذ في مواجهة الغضب من الطرفين؟ هل المشكلة هي سيادة مصر وحقها في بناء جدار على حدودها أم في إدارة حدودها كما تتطلب مصالحها؟ المشكلة في قيادة مرتبكة تتحرك بمنطق السلاحف الناجية من المذبحة. تخاف من كل شيء، من «حماس» وامتداداتها الداخلية (جماعة الإخوان المسلمين)، ومن إسرائيل وهوسها بالقوة والأمن الذي يحرج النظام الحليف أمام دول المنطقة. ومن أميركا الراغبة في استقرار الحليف الأكبر لتستمر مصالحها ووجودها الناعم، بعدما فشلت في حضورها المسلح بكل خشونته.
السلاحف الناجية عمرها طويل، لكنها بقانون الشيخوخة لا يمكنها إدارة توازنها الهش. ولهذا تفلت من قبضتها كوارث، يمكن أن تكون صغيرة، لكنها تكبر وتتحول الى معارك ورصاص ودم وشهداء وجنازات رمزية.
كان يمكن أن تدار أزمة «شريان الحياة» بطريقة أكثر ذكاءً، وبقدرات نظام يملك نصف ما لدى مصر من مساحة مراوغة. لكنها السلاحف لا تنجب إلا كائنات تلخصت قدراتها الذكية في الحرب من أجل البقاء.

حرب أهلية غير معلنةانتظرت مدينة الألمونيوم انتهاء طقوسها الجنائزية بمزيد من العواصف المتراكمة تحت غبار الحزن والخوف والألم من الموت في العيد. شهداء جدد وجنازات ودم مسكوب على ساحة احتفال بميلاد المسيح... وقتلة هم ضحايا في الوقت نفسه
نجع حمادي، مدينة حوّلتها أحلام عبد الناصر بدولة صناعية قوية، الى مدينة أخرى. احتضنت مجمع الألمونيوم الضخم لتبقى حالة وحدها وسط مدن الصعيد. المدينة احتضنها فلاحون هاربون من ظلم الإنكليز واضطهادهم. ومن قبلها احتفظت بوثائق الغنوصية لتشير إلى جسور بين الديانة المصرية القديمة والمسيحية.
نجع حمادي نامت الأيام الأخيرة من المغرب بأوامر الشرطة بعدما كانت موقعاً لمذبحة في المطرانية. مذبحة قيل إنها انتقام عشوائي، وقيل أيضاً إنها محاولة فاشلة لاغتيال المطران (الأنبا كيرلس) لأنه لم يترك فرصة إلا طالب فيها بمحاسبة المسلمين الذين حطموا محال وسيارات مسيحيين في مدينة فرشوط (التابعة دينياً لمطرانيته).
لماذا يترك رجل ديني مكانه الكهنوتي ويتحول الى زعيم سياسي يبحث عن حقوق رعاياه؟ ببساطة لأن القاتل والقتيل في مذبحة عيد الميلاد بنجع حمادي ضحية أكاذيب كبرى عن وحدة وطنية ليست موجودة في الواقع. ونظام غاب معه العدل العمومي الى حد مخيف.
الرجل على المقهى تمتم، بينما يتابع عناوين الصحف: «مصر أصبحت غابة. لا موقع فيها إلا للوحوش المفترسة، وعلى الحيوانات الأليفة البحث عن قطعان تحميها من هجمات الوحوش».
هذا كان تفسيره لهوس البحث عن الجماعة الصغيرة والتمييز بداية من الأسماء وحتى العلامات المباشرة (صلبان وأيقونات وآيات قرآنية ولحى وحجاب). جميعها إشارات إلى أن المسلم يحتمي أو يستقوي بين جماعة المسلمين، ويختبئ المسيحي تحت خيمة الكنيسة. والكنيسة حوّلت المسيحيين الى شعب منفصل بقيادة البابا، والنظام استراح للتعامل مع شخص واحد يتكلم باسم المسيحيين.
هكذا تحول البابا (ومن ينوب عنه) من قائد ديني الى زعيم سياسي وأمير طائفة. يريد أن يضمن نصيب شعب طائفته في البلد، وخصوصاً في تلك المرحلة الانتقالية.
هي حرب أهلية غير معلنة، لكن تفاصيلها أصبحت واقعاً يومياً يزداد ضراوة كلما غاب الأمان العادي. أمان الشخص الصغير بأنه يعيش تحت مظلة دولة توفّر له الحدود الدنيا للحياة الآدمية.
لماذا يفتش الجميع في الهوية الدينية؟ لماذا أصبح سؤال: أنت مسيحي أم مسلم، سؤالاً عادياً؟
لماذا تراجعت رغبة المجتمع كله في الدولة المدنية الحديثة التي لا فرق فيها بين مسلم ومسيحي ولا بين بحراوي وصعيدي أو غني وفقير. لا فرق في الحقوق الأساسية ولا توزيع مناصب حسب الحصص الطائفية.
في مصر تتوزع المناصب حسب حصة طائفية. ولا يمكن مسيحياً أن يتجاوز حدود مناصب معينة في الدولة أو الجيش أو في المناصب الحزبية. هذا واقع موجود من بعد ثورة تموز. ولا أحد يريد أن يواجهه أو أن يتعامل معه.
الجميع، حكومة وأهالي، حزب وطني ومعارضة، يرفعون شعاراً سخيفاً: الوحدة الوطنية ويحيا الهلال مع الصليب.
وعندما اشتعلت فتنة الزاوية الحمراء قبل اغتيال السادات رفعت كل صحف النظام شعاراً أسخف: وحدة عُنصرَي الأمة. السخافة ليست في الشعار، لكن في أنه كان مرفوعاً في ثورة ١٩١٩، لحظة تكوّن الأمة المصرية وانصهار الطوائف في دولة حديثة لا تعترف باللون والجنس والدين.
وبعد ما يقرب من ١٠٠ عام، عندما يرفع الشعار نفسه، فإن ما يحدث خطيئة كبرى لن يحلها سوى الاعتراف أولاً بوجود المشكلة. ما حدث هو تواطؤ عمومي بمفهوم «هذه فتنة لعن الله من أشعلها» وأنها «حوادث فردية ولا بد من نسيانها». الحادثة تلو الحادثة متوالية ذكريات محفورة في ذاكرة محتقنة أعادت العلاقات الى مرحلة القبائل المحاربة بلا قانون.
وبينما تنبثق أناشيد وشعارات الوحدة الوطنية بعد كل حادثة، تتغلغل الطائفية الى حد تشتعل فيه حرب أهلية تحت كل سرير في كل زاوية، ولا يشعر المجتمع بالنار.
رصاصات عيد الميلاد تعميد للكراهية. وصور الشهداء تكريس للفرقة والانشقاق عندما يكون ضحايا المذبحة شهداء المسيحيين. هذا يعني أن هناك انتقاماً قادماً أو دماً معلّقاً يخص طائفة ضد طائفة أخرى. لم يعد توصيف «الشهادة» عمومياً يخصّ البلد كله، لكنه يخصّ طائفة او جماعة صغيرة. وهذه بذرة تتشكل منها ميليشيات الطوائف وبالفعل هناك أمراء سريون لكل طائفة يلعبون فيها على العاطفة الدينية ويصوّرون ما يحدث في مصر على أنه معركة سيطرة بين المسلمين والمسيحيين.
لا تصلح الشعارات القديمة هنا ولا القبلات التلفزيونية بين الشيوخ والقساوسة. حفل الانتقام في نجع حمادي ليس جريمة قتل عادية راح ضحيتها ٨ قتلى و ٩ مصابين، وسلّم فيها الجناة أنفسهم.
لكنها جريمة رمزية بالمكان (المطرانية) والزمان (ليلة عيد الميلاد). الرمز أخطر. وربما هو الجريمة نفسها. لأن الانتقام هنا على الهوية. رجل اغتصب صبية. وطبيب قتل جنيناً. وغيرها من أخطاء أو جرائم عادية، لكنها مع هوس السؤال عن الهوية تحولت الى تصفية حسابات طائفية.
هوية مهووسة وخلل في التعرف إلى الذات: هل نحن فراعنة ضد العرب؟ أم مسلمون نكره المسيحيين؟ أم شيعة نكره السنّة؟ أم كائنات فضائية تكره نفسها؟
هكذا كتبت نوارة نجم في مدوّنتها تعليقاً على الرصاص الطائر من رفح الى نجع حمادي وضحايا في عمر الورود يرتاح المجتمع فقط عندما يمنحهم لقب «الشهيد»، قبل أن يختفي في مقبرة ومعه أحلام بالحياة تبخرت مع رصاصات مجهولة وقتلة مجهولين (حتى لو أعلنت الأسماء والمسؤوليات). ضحايا رمزيين في معركة غير معلنة. ضحايا غير مقصودين في حادث فوضوي.