1. تحلق النوارس فوق ركام الضاحية الجنوبية والنفايات، بالقرب من المطار، أحبس أنفاسي عندما تشتد الرائحة فأختنق. إنه طريقي اليومي من صيدا إلى بيروت.مشهد الأرزة التي تتوسط العلم اللبناني على الطرقات، والتي ألفتها فأضحت شيئاً عادياً لا يدعو إلى الدهشة، وضعتني، هذا الصباح، ملحاً فوق جرح عميق: أسكن هُنا منذ عامين... بعيداً عن الجليل!

2. إنه الثلاثون من أيلول، أقف أمام المرآة محاولة حجز المكان بعدما استيقظت أختي، أتراجع مبدئياً عن الفكرة، لا أريد الرحيل وفي قلبها غضب عليّ. تتقدم باتجاه المرآة وتحسم الموضوع. فأكتفي بابتسامة حزينة لن تفهم معناها قبل حلول الليل، تسألني متى سأعود من الجامعة، أجيب بأنني عائدة بعد أسبوع أو أسبوعين واستدرك لمَ السؤال؟، فتردّ لتصبغي شعري.
أنسحب بخفة ساحر. أدير وجهي عنها. أركض باتجاه غرفتي، ثم أغلق الباب وأسند ظهري عليه. أدفن رأسي بن ساقيّ وأجهش بالبكاء، فهذا اليوم الأخير في فلسطين ولن أعود بعد أسبوعين لأصبغ شعرها، كما كذبت.

أمامي حقيبة سفري، فيها ملابس الصيف ولا شيء يقيني من موسم البرد غير ذلك الحب الذي ينتظرني في لبنان.
أودع عائلتي بشكل عادي فأنا ذاهبة إلى «الجامعة». جدتي تسرع إليّ بكيس من الزعتر الجبلي لآخذه معي إلى «الجامعة»، في سكن الجامعة كثير من الزعتر فأشكرها وأضعه على الطاولة. تحزن، فأعاود أخذه. أخي لا يزال نائماً... بعد يومين سيسافر إلى روما للدراسة، أستغل غفلته بطبع قبلة على خده... قبلة لا توقظ. وأرحل!

3. أمشي بين الأشجار على نزلة سكن الجامعة، أستقل سيارة أجرة وآمر السائق بالتوقف عند مدخل البلدة القديمة في بير زيت. في جسدي خدر لئيم، أجرّ ساقاي جرّاً، أقف عند بوابة الكنيسة لدقائق ثم أردف المشي باتجاه مطعم «حوش العلية»، أطلب طبقاً من «سلطة غزة» وأتلذذ بالنار التي تشرئب في حنجرتي حينما ينزلق الفلفل الحار فيها.
يستفزني الهدوء، فأطلب أبي عبر الهاتف: «بدي أرجع تعال خذني».

4. كأس ويسكي آخر. يشرب أبي بينما يقود السيارة في الطريق من حاجز قلنديا إلى مجد الكروم في الجليل. أتأفف طوال الطريق «اخت البكاك (زحمة السير) وينتا بدنا نصل!»
الناس يقطفون الخيار في سهل مدينة طمرة، ألهّي نفسي بالنظر إليهم، بينما يرتفع صوت أبي فجأة : متذكرة شو قلتلك لمّن استشهد محمد الدرة؟ شو ذكّر أبوي بمحمد الدره إسا؟ أقول في نفسي.

5. نسمّي الحصيرة «إياس» ومع ذلك لا يعنيني البحث عن السبب بقدر ما يعنيني الجلوس عليها ومشاهدة كرتون «عدنان ولينا». يمسك أبي «الشلاط» (جهاز التحكم) مقلباً المحطات التلفزيونية. يستقر أخيراً على القناة العبرية الثانية، فأنفجر غاضبةً.
يا أبوي في ولد استشهد بحضن أبوه وإنتي عم تحضري سبيستون! يقول أبي حزيناً.
يعيدون المشهد أكثر من مرة، عيناي تلتصقان بشاشة التلفزيون. إصبع الوالد تتحرك مطالبة جيش العدو بالتوقف عن إطلاق النار، تعزف الكاميرا عن المشهد قليلاً وتبتعد، فيخرج دخان... رصاصة بالحائط... رصاصة بالجسد... يسقط الولد!
يخرمش «كرانشو رامبو» حلقي، تماماً كما فعلت الخبزة عندما رأيت أحشاء الرضيعة الشهيدة إيمان حجو ممزقة.

6. ـ راح آخذك معي على قرية زلفة حد جنين، حركة «أبناء البلد» مطلعين باص.
ـ طيب بلكي متت؟
ـ مش راح تموتي... بضربوا مطاط والمطاط بعملش إشي.
رقدت في حضن والدي خلال الطريق من مجد الكروم إلى قرية زلفة، سألته أسئلة كثيرة عن قنابل الغاز والرصاص المطاطي، كان صامتاً وحزيناً لا يجيب.
يخرج الدخان من الدواليب المحترقة أمام المتاريس، الشبان يربطون علم فلسطين حول أعناقهم ملثمين وجوههم بالكوفية، نبدأ برشق الجنود بالحجارة...
وأخيراً حققت حلمي ورميت حجراً على قتلة محمد الدرة.

7. نصل إلى مفرق قرية البروة، أشق نافذة السيارة مخرجة أنفي لأستنشق هواء الجليل بعدما خنقني الهواء خلف الجدار العنصري.
خي!

8. تحلق النوارس فوق ركام الضاحية والنفايات، بالقرب من طريق المطار. ينطلق صوت فيروز من راديو «صوت الشعب»
وحياة ريشاتك وإيامي سوى/ وحياة زهر الشوك وهبوب الهوا/ إن كنت لعندن رايح وجنّ الهوى/ خدني لعندن شي دقيقة وردني.