عبد الحليم فضل الله أزمة الديون في دبي ليست عابرة، فالأموال المهددة بالضياع كبيرة جداً بالنسبة إلى اقتصاد صغير نسبياً، ومتشابك مع المراكز المالية العالمية، ويطالب بجدولة قيم ضخمة تفوق ناتجه الإجمالي.
في السابق، استطاعت تلك الإمارة الصحراوية أن تحقق إنجازات هائلة في غضون عقدين، ويحقّ لها أن تفاخر بنجاحها في تنويع اقتصادها، إذ خفضت حصة النفط والغاز والتعدين إلى أقل من ثلاثة بالمئة من الناتج، وزاد اعتمادها على التجارة والنقل والتطوير العقاري الذي حقق في السنوات الأخيرة طفرة هائلة. لكن الخيبة تتكرر هنا، لتؤكد ربما عجز العالم العربي عن تحقيق نجاحات اقتصادية دائمة لا تدور في فلك النفط. لبنان هو واحد من تلك النجاحات المحبَطة، والأزمة التي تضرب دبي تنذر بإطاحة مثال آخر اجتذب أنظار العالم بأسره. وما يمكن استنتاجه هنا، هو أن الخروج من اقتصاد النفط غير كاف وحده لإقامة حداثة اقتصادية، إذ لا بد من تنوع اقتصادي حقيقي ومستمر، عوضاً عن الركون إلى أحادية اقتصادية بديلة تستند فقط إلى مزايا الموقع الجغرافي، وإلى توفير ضمانات ملائمة للباحثين عن مكاسب سريعة وسهلة. ولن تقوى ملايين أطنان الاسمنت على طول السواحل الخليجية وحدها على حمل مشروع طويل الأمد للنهضة الاقتصادية والإنتاجية، وينطبق الأمر نفسه على «اختلاق» المزايا السياحية في صحارٍ تتطلّب سيولاً من المال كي تظلّ قادرة على المنافسة.
العنصر الأساسي لتفسير أزمة دبي هو التفاوت في الأداء بين مستوى رائد ومتقدم من التخطيط، وبين الاعتماد من جهة ثانية على إدارة سيئة وسياسات عامة تتناسب فقط مع السيناريوات الأكثر تفاؤلاً. لقد وضعت خطة دبي الاستراتيجية لأعوام 2007 ــ 2015 أهدافاً طموحة، منها تحقيق نموّ سنوي متواصل لا يقل عن 11% وزيادة ناتج الإمارة إلى حوالى 108 مليارات دولار، وإيصال الدخل الفردي إلى أكثر من 44 ألف دولار، لكنها لم تتحسّب لاحتمالات واردة بقوة وخصوصاً بعد حرب العراق، مثل حدوث تباطؤ إقليمي وعالمي، وحصول تقلبات في معدلات الصرف ونسب التضخم، وتغيرات حادة في أسعار المواد الأولية والعقارات. كما أنّ اقتصاد الإمارة، بني على فرضية مفادها أن من الممكن تحويل الاقتراض من مورد استثنائي إلى مورد عادي دون أن يترتب على ذلك زيادة في المخاطر، وما دام أن السيناريو الأفضل هو المرجح فلا داعي إذاً لاتخاذ تدابير احترازية قد تؤدي إلى تخفيف سرعة السير على طرقات النمو المفتوحة.

لبنان واحد من النجاحات المحبَطة وأزمة دبي تنذر بإطاحة مثال آخر

قد تتمكن دبي من التعافي بسرعة، وبوسعها أن تفعل ذلك بوقت أقصر لو تضامنت معها أبو ظبي وجرى تسييل جزء من الصندوق السيادي الوفير لضمان الديون، لكن المضيّ في مشاريع التطوير العقاري الطموح سيكون صعباً بعد الآن، وقد تضطر الإمارة إلى إلغاء العديد منها، والأهم من ذلك هو أنّ النموذج نفسه، تعرض لضربة قوية تدعو إلى مراجعته والتدقيق في الأسس التي قام عليها، بعدما بات في المنطقة معياراً للنجاح والفشل.
ما ينبغي مراجعته هنا هو الركائز الثلاث التي قام عليها النموذج، والتي تتمثل أولاً بالانفتاح على الخارج من خلال الإفراط في الاستدانة وتسهيل حركة رؤوس الأموال؛ وثانياً في تنويع الاقتصاد، لكن وفق معادلة ضيقة تتمحور حول قطاعات مرتبطة بالخارج؛ وثالثاً في التداخل الخطير وغير المدروس بين الدولة والمستثمرين والمتعهدين، وكذلك بين المصلحتين الخاصة والعامة.
من المفيد التذكير مجدداً بأنّ الاقتصاد المعتمد على الريع العقاري ومزايا الموقع أكثر من اعتماده على الموارد المادية والبشرية الأخرى، هو الوجه الآخر لاقتصاد النفط، فكلاهما يستخدم الأموال والخبرات واليد العاملة الآتية من الخارج لإنتاج سلعة يتم تمويل شرائها من الخارج أيضاً. لكن في اقتصاد المضاربة تكون العوارض الجانبية على هيكل الأسعار والتكاليف ومستويات المعيشة أكثر فداحة وخطورة. بالنسبة إلى دبي، الخروج من النفط لم يكن نحو مظلة آمنة، رغم الإنجازات الكبيرة والتألق المشهود. كان بوسعها بدلاً من ذلك أن تعمل على تجسيدٍ متدرّج لمشروع طموح يستثمر بكفاءة ورشد المزايا المتوافرة فعلاً، كالاستفادة من تغيّر اتجاه التجارة مع المنطقة من الغرب إلى الشرق الأقصى، والاستفادة كذلك من الموقع العالمي الفريد الذي يجعل مطاراتها الأقرب إلى نحو ثمانين بالمئة من سكان العالم. لقد حصل ذلك فعلاً، لكن جذور الأزمة الراهنة تعود إلى اللحظة التي بدأت تنمو فيها المكاسب المتأتية من الأسواق العقارية والمالية، على نحو أسرع من نمو القطاعات الأخرى.
اللافت في الأمر هو أن هذا الاقتصاد المفرط في ليبراليته، أتاح للدولة الانغماس في دنيا التجارة والمضاربة والمال. هنا لا نرى تدخلاً حكومياً لإدارة مرافق حيوية، أو لتمويل وتسيير مشاريع إنتاجية وتنموية كما في حقبة الاشتراكية العربية، بل لإدارة عمليات مضاربة واسعة النطاق والانغماس في مشاريع إنشائية كبرى، الجدوى الوحيدة منها هي بناء صورة البلد كجنة للأعمال وأرض للكسب السريع. ولم يكن هاجس المنافسة الإقليمية الدافع وراء الاستثمار بأكثر من الطاقة الاستيعابيّة للإمارة، بل إنّ النمو المذهل لاقتصاد دبي ألزم الدول والإمارات المجاورة بأن تحذو حذوها وتبالغ في الإنفاق على مشاريع عقارية وسياحية تبقى مقفرة معظم أيام السنة.
يقال إن لبنان لن يتأثر بأزمة «دبي العالمية» على نحو مباشر وسريع. هذا صحيح، لكنه لا ينفي وجود شبه منهجيّ بين اقتصادي البلدين يدعو إلى الحذر، كالإفراط في الاستدانة، وربط النمو بقطاعات متأرجحة وغير مستقرة بحد ذاتها، ووجود ميل عميق لدى صانعي القرار بأن تتخلى الدولة عن دورها الرعائي والإنمائي، في مقابل دعوتها إلى رعاية أعمال المضاربة المالية والعقارية والانغماس فيها.
* رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق