عشرات الأسرى من فلسطينيي الـ 48 يعيشون عزلة خلف أسوار السجون الإسرائيلية. هؤلاء القابضون على جمر الأسر يترقبون كل حرف عن صفقة التبادل، يعيشون أملاً بالحرية، وسط تعنت إسرائيلي أزلي، قبل كل صفقة، باعتبارهم «شأناً داخلياً»
حيفا - فراس خطيب
الفجر يفقد شيئاً من صفائه تحت المطر. شمسه لا تشرق وبرده أقسى. لكنَّ الجوّ لا يحكم، إنه تفصيل لا مكان له في «عالم زيارات الأسرى». إنّ من لم يعتد هذا العالم يراه واقعاً مأساوياً غريباً عن حياته، و«يتعاطف» بحكم الإنسانية التقليدية مع هؤلاء المنطلقين فجراً من العالم «المفتوح» (ظاهرياً) إلى غياهب السجون. لكنّ هذه النظرة الاعتيادية تختفي عندما تنخرط، ولو لمرّة واحدة، في عالم الزيارات.
للمأساة الكبيرة وجه آخر لا يراه سوى من يعيشونها، وهو تفكيك سنوات الأسر الطويلة إلى تفاصيل صغيرة، لتُكسِب الحياة رونقاً وتزيدها أملاً. عندها تصبح الزيارة القصيرة هي الحياة الطويلة. لا أحد يتصوّر، سوى هؤلاء، معنى الـ 45 دقيقة مرة كل أسبوعين، فهي فسحة الأمل الباقي. يتركون مأساة السنوات، ويعيشون متعة لحظة على الهامش… إنَّها الفرحة بأسرها.
مشهد الأسلاك الشوكية المحيطة بسجن شطة (الجلبوع) قاسٍ لـ«القادمين الجدد». عالم المفارقات يتجلّى مع الخطوة الأولى: «أهلاً وسهلاً بكم»، كُتب على إحدى اللافتات المؤدية إلى حيّز الانتظار هناك. ساحة مسقوفة لكنَّها مكشوفة على البرد، تتوسطها ساحةٌ صغيرة للُعب الأطفال، نشاز يندرج هو أيضاً ضمن عالم المفارقات، فالسجّان الذي يمنع الطفل من ملامسة والده الأسير وتقبيله، هو نفسه الذي يبني ساحة لُعَب لا فائدة منها. انتظار طويل، دخل أهل الأسرى أفواجاً بعد إتمام المعاملات الشاقة. لكنّ فرحة اللقاء المرتقب تذلّل العقبات التي يضعها السجّان. كل شيء، رغم صعوبته، يسير على إيقاع اعتيادي بالنسبة إلى الأهل، وما يفاجئك منه، هو أنه أمر اعتيادي بالنسبة إليهم.
كانت تلك الزيارة الأولى لأهالي أسرى الداخل بعد العيد الكبير. تختلف عن الزيارات العادية بـ «15 دقيقة»، علاوة على الـ 45. إنها «عيدية» السجّان. أسرى الداخل الغائبون عن المشهد الإعلامي عادةً، هم ركن صلب في الحركة الأسيرة الفلسطينية. لا تفرّق سلطات السجون بينهم وبين الأسرى الفلسطينيين من كل المناطق المحتلة: التعامل ذاته، القسوة ذاتها والتضييقات ذاتها. كلّهم مندرجون تحت عنوان يسمى «الأسرى الأمنيين»، لكنَّ عند صفقات التبادل، تتعاطى معهم على أنَّهم «مواطنوها» وتتعنّت دائماً (في غالب المرّات من دون جدوى) لعدم إطلاق سراحهم، معتبرةً إياهم «شأناً داخلياً».

يصل عددهم اليوم إلى ما يقارب الـ 150 أسيراً، بينهم ثلاث نساء. غالبيتهم يقضون أحكاماً كبيرة

تحاول السلطات الإسرائيلية إظهار أن تحرير أسرى الداخل ضمن الصفقة المرتقبة مع «حماس» «كسراً للقواعد»، رغم أن العكس هو الصحيح، إذ إنها أطلقت سراح العشرات في صفقات تبادل أنجزت في أعوام 1979 و1981 و1983 و1985، لكنَّها رفضت إطلاق سراحهم في الصفقتين الأخيرتين مع حزب الله.
يصل عددهم اليوم إلى ما يقارب الـ 150 أسيراً، بينهم ثلاث نساء. غالبيتهم يقضون أحكاماً كبيرة، وما يقارب الـ20 أسيراً منهم حكم عليهم بالسجن المؤبّد (غير المحدّد)، جزء كبير منهم قابعون في الأسر منذ أكثر من 20 عاماً. حالهم من حال الحركة الفلسطينية الأسيرة، البالغ عددها 11 ألف أسير. يعيشون عالماً من العزلة اللامتناهية. فإذا كان العالم برمّته يعرف اسم الأسير الإسرائيلي جلعاد شاليط، وعمره وتفاصيل حياته، فبالكاد ستجد من يعدّ لك بضعة أسماء من الأسرى الفلسطينيين، وخصوصاً من أسرى الداخل، إذا عُرف عن وجودهم.
لذا، تخجل من نفسك، أنت العالق في العناوين الرسمية، حين تنظر إلى عيني تلك المرأة التي تجاوزت عامها الثمانين بشهرين، تشرح لك مأساة عقود. أم محمد برغال، والدة الأسير مخلص برغال، لم تفوّت زيارة تذكر منذ 23 عاماً. حين تسألها عن صمودها لسنوات في الزيارة تقول: «حتى لو أتيت زحفاً إلى هنا. هذا ابني. لن أعيش من دون الزيارة، إنها متنفسنا». وعندها، تتعب ملامحها، وتتغلب عليها الدمعة. كم هي سخية دمعة الأمهات.
من حديث إلى آخر، ومن مقابلة إلى أخرى ترى أم محمد برغال تكبر، ومن صورة إلى أخرى، ترى مخلص أيضاً يكبر معها. هما، مثل كل أسير وذويه، حالة إنسانية تنتظر خلاصها من بين الأسوار. يمر الاثنان عليك تماماً مثل شخصيات في رواية طويلة، يمضي فيها الزمن وينهك جمالية الألوان. لا أحد يكترث للزمن الجاري، لا أحد يعدّ الأيام، وحدها الملامح والدمعات، تفضح العمر الذي يمر بـ«رمشة عين». وعن هذا تحكي أم مخلص: «أعطاني صورة له قبل فترة وجيزة. أخذتها وذهبت إلى البيت. كنت أحدق فيها. نظرت إلى صوره القديمة والجديدة، ورأيته أمامي كيف يكبر، لقد دخل شاباً إلى هنا، وها هو يكبر. لم أعرف النوم لأسبوعين».
بعد قليل، سيبدأ السجّان بمناداة الأهل عبر مكبر الصوت. صوت مزعج، لكنّه الطريق الوحيدة للقاء. سيدخل الأهل للقاء الأبناء، أو الأبناء للقاء الأهل. وهناك تهون القضايا كلّها، بالنسبة إليهم، الإنسان يعيش 45 دقيقة… مرة واحدة.

رهائن الأمل
تأتي زيارة أسرى الداخل في خضم الحديث عن تبادل للأسرى. خبر يتصدر العناوين في كل نشرات الأخبار. تختلط الشائعات بالحقائق، والأمل بفقدانه. عند الحديث عن هذا العنوان، عليك أن تكون حذراً هناك. فالخبر الذي نقرأه بطريقة عابرة، يكتسب بين صفوف الأهل معنى الحياة برمّتها. عليك أن تترك كل ما تعرفه عن «الأمل»، لأنَّ هذه الكلمة تكتسب بين أهالي الأسرى بعداً آخر، يبدأ من بداية عالمهم وينتهي مع نهايته أيضاً. وترى تلك الحقيقة المشتعلة الحال متجلّية، في عيون أم الأسير وليد دقة (الصورة). تسألك أن تبعث في نفسها أملاً لكونك «صحافياً وتعرف». تنظر إليك، وتسألك: «أنت بتعرف أكثر منّا، رح يتحرروا يمّا؟». تصمت عاجزاً، وتدرك أنك لست بصدد نقاش سياسي ولا كتابة مقال، أنت أمام امرأة تجاوزت السابعة والسبعين، تزور ابنها منذ عقود. الأمل في حالتها يختلف عن المفاهيم المألوفة. عندما ألقي القبض على وليد عام 1987 كانت في أواسط عمرها، وهو كان لا يزال شاباً. لكن الوقت يمضي. وليد صامد في قلب السجن، وهي صامدة أيضاً، لكن للعمر حقه. الأسر لا يعني سجناً لمن يقضي محكوميته فقط. إنه أسر للعائلة، وخصوصاً الأمهات. حين تصبح الحياة كلّها رهينة للزيارة القصيرة، والأمل الذي يعيش في الأفق. الأمل موجود دائماً، في حديث عن صفقات أو بعدمه، لكنّه يكبر في هذا الأيام إلى حد الخوف من الخيبة. والخيبات في مثل هذه الحالة مأساة أخرى. إنَّ مشهد الأمهات، اللاتي يزرن أبناءهنّ منذ أكثر من عشرين عاماً، يظل عالقاً في ذهنك رغماً عنك، فتخاف أنت أيضاً من الخيبات.


مشاهدات تختصر المأساة



جزء كبير من الأطفال كانوا صغاراً حين دخل والدهم الأسر. صار الأسير العالق خلف سور السجن يراهم يكبرون من زيارة إلى أخرى، ويتواصل معهم عبر «حاسة السمع»، ليس إلا. يعيش الأسير «زمناً موازياً» مع أبنائه ويكبر كما يكبرون، لكن من دون أن يكون إلى جانبهم.
تقول زوجة أحد الأسرى إنه عندما اعتقل زوجها، كان عمر ابنتها شهوراً، صار عمرها الآن ثمانية أعوام. طفلة تحب والدها، لكنها في الوقت نفسه لا تعرف ماذا تعني كلمة أب. وتضيف «أحياناً أخترع من عندي قصصاً وأقاويل لأشرح لها معنى الأبوة المفقودة». وهناك أيضاً من اعتقل حين كان أولاده أطفالاً. هم كبروا، ونالوا رخصة سوق وصاروا يقلّون أمهم إلى الزيارة. الزيارات عصور. كانت ذات يوم أسهل، بشهادة الحاضرين في ساحة الانتظار. لكنَّ الحال تزداد سوءاً من عام إلى آخر. كانت ذات يوم مفتوحة، تدخل العائلة، وتقبّل الأسير، وتجلس معه. كان إدخال الطعام مسموحاً والكتب أيضاً. لكن السلطات، التي تتبنى «عقلية الجدران» في سياستها، اتبعت الأسلوب ذاته في قلب السجن ومنعت الزيارات المفتوحة، ووضعت بين الأسير وعائلته جداراً مشبّكاً. صار الاحتضان مستحيلاً، واقتصر على ملامسة الأصابع فقط. لكنَّ تصعيداً آخر خرج إلى حيّز التنفيذ: حاجز زجاجي محكم الإغلاق، ويتحدث الأسير إلى ذويه عبر الهاتف ويشاهدهم عبر الزجاج.
يمنع الأهل من إدخال الطعام، والسجناء أيضاً لا يأكلون من طعام السجن. يشترون من «الكنتينا» (دكان السجن). ذوو الأسرى يحوّلون مبلغاً شهرياً لـ«الكنتينا» ليستغله الأسير. يستطيع الأهل إدخال الملابس، لكن لا يحق لهم اختيار الألوان، هناك ألوان مسموحة وأخرى ممنوعة. يقول والد أسير: «ابني يحبّ الألوان. فهي تعطي أحياناً أملاً لكنهم لا يرضون».
والأطفال تماماً مثل العائلات، ممنوعون من تقبيل آبائهم. قانون يسري على جميع «السجنّاء الأمنيين». وعالم الاطفال له توقيته وإيقاعه، يريدون البقاء دائماً إلى جانب الزجاج. يحاولون ملامسة والدهم الأسير المبتسم حتماً من ورائه.
لم تنجح المنظمات الحقوقية في إقناع المحاكم الإسرائيلية بأن تسمح للأطفال بتقبيل ذويهم. وينكشف المشهد الحزين بعد نهايته. تقول محامية تزور الأسرى إنه عندما تكون ساحة الزيارات فارغة، تظهر على الزجاج الفاصل آثار الأيدي الصغيرة، أيدي الأطفال.

ما قل ودل


اعتقلت قوّات الأمن الإسرائيلية كريم يونس عام 1983، وجهّت إليه تهماً بـ«قتل جندي إسرائيلي»، وحكم عليه بالسجن المؤبد المفتوح. دخل يونس، ابن قرية عارة في منطقة المثلث، السجن عندما كان طالباً جامعياً في جامعة بن غوريون في بئر السبع، لكنَّ عمره اليوم 52 عاماً. هو عميد أسرى الداخل. تنقّل بين السجون الإسرائيلية. والدته صبحية يونس، تتمنى عودته لكنها خائفة من لقائه: «أخاف من أن أنهار عند لقائه بعد هذه السنوات».


تضامن أسري وتمييز عنصري



التعامل مع الفلسطينيين ذاته في كل مكان، من صلب الحرية إلى صلب السجون. أم محمود إغبارية، أو أم الأسيرين محمد وإبراهيم، تبدو صامدة في يوم زيارتها. ابناها اعتقلا قبل 18 عاماً، وهي مواظبة على زيارتهما طيلة تلك الفترة «ما عدا الأيام التي اعتمرت فيها» كما قالت. عندما اعتقل ابنها محمد، كان متزوجاً من ستة شهور، وتواظب زوجته منذ ذلك الحين على زيارته أيضاً.
كان السجن قاسياً على الفلسطينيين دوماً، لكن مع هذه القسوة، تبدو التفرقة العنصرية واضحة. إيغال عامير، الذي قتل رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين عام 1995، ينال حقوقه كـ«أسير»، حتى إنه سمح له بالزواج وإنجاب الأطفال من داخل السجن. حتى إنَّ عامي بوبر، الإرهابي اليهودي الذي نفّذ مجزرة ريشون لتسيون وقتل سبعة عمّال فلسطينيين من قطاع غزة كانوا في طريقهم للعمل، منح الحق بالزواج والإنجاب ويخرج إلى العطل من السجن.
وفُضح الموضوع بعدما خرج في عطلة وتورط في حادث طرق بعدما قاد السيارة من دون رخصة سوق. لكنَّ الأسرى من فلسطينيي الـ48 محرومون من جميع الحقوق. يمنحون الحق بالزواج لكن على الورق فقط، من دون أي حقوق أخرى تذكر أبداً.
مع هذا، يمكن القول إنَّ الثقافة تولد من رحم المأساة. فعلى الرغم من المعاناة التي يحملها، يبث الأسير ثقافة سياسية إلى العائلة كلّها. العائلة التي أسر ابنها واعية أكثر للحال السياسية والواقع الذي يحياه الفلسطينيون في كل مكان. هذا هو عالمهم.
ويتخذ الأهل مكانة في السياسة رغم كل شيء. هم مندوبو أسراهم إلى خارج الأسوار. ثمة عائلات لم تعرف طعم السياسة، ولكن منذ أسر أبنائها تحولت حياتها رهينة للعناوين في هذه مأساة. كذلك توحّدت عائلات الأسرى، من دون تخطيط، إنها درس في الإيثار، وصارت تعيش حالات الزيارة نفسها.
ويلخص خالد خليل، والد الأسير حسام خليل: «أهالي الأسرى أصبحوا مع الأيام عائلة واحدة مرتبطة همومها ومتداخلة اجتماعياً وسياسياً، نحن ذوي الأسرى أصحاب الأحكام المنخفضة نسبياً (من عامين وحتى خمسة عشر عاماً) نشعر بالتضامن اللامحدود مع الأسرى القدامى وذويهم ونترقب يومياً أخبارهم وأخبار صفقة التبادل، متلهفين لإطلاق سراحهم أكثر من إطلاق سراح أبنائنا».