strong>وائل عبد الفتاحماذا يفعل البطاركة في أيامهم الأخيرة. أصوات ذبولهم مؤلمة وقاسية. يديرون البلد كلّه بمنطق الخوف والتحذير من مجهول رابض في الظلام. الخوف يثير غريزة الدفاع، ويلغي العقل ويجعل من أخلاق الزحام قانوناً للسياسة في لحظة التغيير

«أوعى الزيت»



الرجل يريد المرور بسرعة وسط زحام شديد. ولكي يمر كان يصرخ «أوعى الزيت». الجميع ينتبهون إلى التحذير، ويتوقّفون أو ينظرون إلى الوراء، وعندئذٍ يمر الرجل بسرعة شديدة.
في العادة لا يكتشف أهل الزحام الخدعة، ولا أن التحذير وهمي، فلا زيت ولا خوف، إنها رغبة المرور السريع. الغفلة عن اكتشاف الخدعة ترجع إلى شعور أكبر بالإنقاذ، والفرح بأن الزيت لم يترك البقع المدمّرة على الملابس.
ملاعب السياسة تسير بنظرية «أوعى الزيت» ونفسيّة الراغب في المرور بسهولة وسرعة وسط الزحام. والزحام هو التعبير الأقرب للمجال السياسي. أحلام ورغبات وغرائز وخبرات وذاكرة قاسية تتراكم شحناتها من دون تنظيم في مجال، كلّما انفتح ازداد الشعور بالانغلاق.
شحنات الزحام تفرض أخلاقها من دون مقاومة تقريباً. ومرور حامل الزيت الوهمي يحدث في لحظة خاطفة. المرور فيها يساوي القدرة على إثارة الرعب من خطر حقيقي. فقط الإثارة مع غياب الخطر في تلك اللحظة.
فعلها النظام كثيراً بوعي. أطلق «بعبع» الإخوان ليخيف المجتمع والعالم. «إذا تركنا مقاعدنا فسيحتلها المرشد ورجاله»، هكذا برّر حسني مبارك جلسته الطويلة على مقعد ورثه من جنرالات دفعوا جميعاً ثمن السلطة الباهظ.
محمد نجيب الكلاسيكي، ضحية شهوة السلطة المغموسة بالثورة. عملية التخلص منه لم تكن صعبة في ظل فوران لم ينتبه أحد فيه إلى الصراع بين «توتاليتارية» الجنرال الشاب وليبرالية الجنرال العجوز. حسم الصراع بمنطق «أوعى العواجيز» و«أوعى أبناء العهد البائد».
لا بد دائماً من اختراع الشبح. الشبح الذي أنهى خصوم أنور السادات كان أصحاب قميص جمال عبد الناصر. التعبير الذي اخترعه الرئيس وقضى به على منافسيه من موظفي الدولة الناصرية.
مبارك لم يخترع «بعبعاً»، فقط سمح له بالحركة واحتلال بعض الأرض تحت سيطرته.
ومن يومها ومصر تخسر مساحات في المجال السياسي تحت شعار «أوعى الإخوان». الخوف يحرّك جهاز المناعة تحريكاً خاطئاً. تلتقي المصالح كلها عند النظام.
وهناك ورقة احتياطية تُستخدم في حال فشل ورقة «الإخوان»، وهذا ما استُخدم مع الدكتور محمد البرادعي، عندما التقت رغبات شعبية في ترشيحه واستجاب هو بأسلوبه. خرجت له تهمة الخيانة، وأفردت صحف النظام مساحات تقول إنه «عرّاب احتلال العراق».
«امسك عميل أميركي»، عبارة تلخّص حملة نقلت البرادعي من خانة المرشح إلى الخائن في لمح البصر. إنها ليست فقط طريقة «أوعى الزيت»، ولكنها إعلان سلطة لها حق إصدار صكوك الوطنية. البرادعي محروم من الصك، ولا بد أن يمرّ حامل الزيت الوهمي قبل أن يتحول الأمل إلى شخص له ملامح وحقيقة ملموسة.
وقبل أيام، التقت مجموعة من قيادات صحافية وسياسية على العشاء. الهدف كان: كيف يمر مكرم محمد أحمد، مرشح النظام (لا الحكومة فقط) لمنصب نقيب الصحافيين. الحضور رأى أن ضياع منصب النقيب من مكرم محمد أحمد هو اختطاف للنقابة. التقت مصالح تبدو أحياناً متباينة، بدايةً من رؤساء تحرير صحف حكومية، رأوا في عيون الرجال الكبار في الحكم غضباً عرفوا أنهم لن يتحمّلوه. حضر أيضاً رؤساء تحرير صحف مستقلة، تعوّدوا اللعب في الهامش الصغير من حرية النظام، ويرون أن ضياع الفرصة من مكرم هو عودة لتيارات غوغائية لتفرض سيطرتها على النقابة.
التقت المصالح، وقادها رجال في النظام، وحدوا الجميع لضرب مرشح التغيير، كما يطلق على ضياء رشوان في حملته لمنصب نقيب الصحافيين. وهنا طُبقت نظرية «أوعى الزيت». تسربت التحذيرات: تسلّل «إخواني» عبر ضياء. التحذير أحدث انتباهاً في الأوساط المرعوبة من شبح الجماعة، التي تتحرك في الخفاء والعلن معاً.
حكماء ليلة «أوعى الزيت» اقترحوا حل قضية صحافيي جريدة «الشعب» لتكون العرض الانتخابي لمكرم في الإعادة ورشوة غير مكلفة للحكومة. والحقيقة أن الرد لم يكن قوياً في معسكر ضياء، الذي يعتمد أكثر على الشوق إلى الأمل والتغيير.
المصالح في معسكر ضياء لا تلتقي على فكرة واحدة، وهناك تيارات (وخصوصاً الناصريين) تصرّ على الظهور والاحتفال في تأكيد على أن التصويت لمصلحتهم لا لمصلحة أمل غائب.
الاحتفال بالطريقة الحزبية يسهّل مهمة «أوعى الزيت». ويعلي من الهمسات حول «أجندة خفية» أو تسرب إخواني.
من سيمر وسط الزحام؟ وهل مرور مكرم بطريقة «أوعى الزيت» بروفة لمرور أكبر؟ مثلاً يمكن أن يمر جمال مبارك بصيحة «أوعى عودة الجنرالات». ويمكن أن يمر جنرال إلى قصر الرئاسة على طريقة «أوعى توريث ابن الرئيس».
هذه لعبة خطر وسط الزحام ومستقبل يديره الخوف لا الشجاعة.

أبطال الفوضى



السياسة في مصر مواسم. هبات يتصاعد فورانها. ثم ينطفئ كأنه لم يكن. «انتفاضة الكرامة» بعد مباراة الجزائر لم يبقَ منها غير رماد، وتصريحات رئاسية عن حسن العلاقات واعترافات متأخّرة بالتقصير الأمني
الهبّات دليل عشوائية. تبدو فيها السياسة موجهة إلى «شخص» متخيّل. ابن فوضى. كل الألعاب السياسية تعيد صياغة نفسها على مزاجه السياسي والنفسي. عفوي يخرج من تحت خبرات ثقيلة. مربك يدمّر كيانات أقامها المجتمع ونسيها بعدما استقرت عليها سعادته.
البطل الافتراضي، الذي يحرك السياسة وتتحرك إليه، أقرب إلى موديل «اللمبي» في الفيلم الشهير. شخصية فريدة طازجة تكوّنت من بقايا أفكار وقيم وأخلاق فقدت هيئاتها الأولى وتآكلت وتجمعت في كيان لا يمكن توصيفه بأوصاف تقليدية. هو «حثالة» المدن. ليس صعلوكاً ولا هو ابن البلد الشعبي ولا الفقير المعدم.. هو «حثالة» تعيش بين فواصل الطبقات. لا وعي خاصاً ولا سياق يعيش فيه.
يغضب أحياناً من السلطة، ويصل بغضبه إلى الحافة. فيكسّر ويحرق، وبعد قليل يمكنها أن تصبح في الطرف الآخر وبالحماسة والتدمير نفسَيهما. حثالة تفجّر الكوميديا من صندوق بقايا بشرية.
يمكن من باب الفلسفة اعتبارها نوعاً عشوائياً من الغضب والسخط على كل المؤسسات القائمة، بدايةً من مؤسسات السياسة إلى مؤسسات القيم والأخلاق، من العائلة إلى المدرسة مروراً طبعاً بمؤسسات السلطة، التي لا تطارد سوى «الغلابة» والضعفاء، بينما تحمي الأقوياء والمسنودين إلى حائط النفوذ.
«اللمبي» هو هذا الكائن المسخ، الذي ولد بعد سنوات طويلة من الصمت والعجز، يتكلم كلمات غير مفهومة ويعبّر بنصف لسان وحركات فوضوية. فتوّة من حي شعبي يعتقد أنه يملك قدرات خرافية، ويشعر بثأر مع الدنيا لأن حظه لا يناسب قدراته التي يتخيلها، لهذا يتوعد الناس كلهم في جملة يكررها كثيراً «طيب يا بني آدمين». قاموس ينتمي إلى لغة سوقية. فاضح في أخلاقه. يشرب البيرة علناً، ويدخّن الحشيش والبانجو. ويعلن حبه ويتبجّح على الدنيا كلها، وفي الوقت نفسه رقيق وخجول ورومانسي على طريقته.
يتدخل في كل شيء. تدخل مفرط بدون علم ولا دراية، يرقص ويغني ويبيع نفايات الطعام، يقول الشعر وينظّر في الحب. يشعر دائماً بالخطر. وهو في الوقت نفسه مصدر الخطر الأول. يستمد ثقافته ومفاهيمه من الفجاجة غالباً. كل شيء في حالته العارية. لا تنميق ولا عناوين برّاقة.
شخصية منتشرة كثيراً في المعسكرات البشرية التي تسميها الحكومة مساكن شعبية. وهو وحش لكنه جبان في الوقت نفسه. وفي وحشيته وخوفه شيء خاص بكائن «تجميع» لا أصيل.
هو نفاية كل موديل. وهذا ما تصنع السياسة من أجله الآن.

البدلاء المعطوبونالمرشد يحاصر خليفته (نائبه الحالي الدكتور محمد حبيب)، حتى وهو يؤكّد انسحابه بعد انتهاء دورته في كانون الثاني المقبل. فكرة البديل استفزّت مهدي عاكف المترفع عن الخلود. ووضع دائرة تحاصر حلم حبيب في المنصب. واقترح تقديم الانتحابات الداخلية لتكون خلال كانون الأول لا حزيران.
المرشد منصب له هالة تقديس في جماعة تقوم على السمع والطاعة، وهذا ما يجعل الحلم به يتزاحم مع رغبة الدخول في نادي الزعماء المقدسين. ولهذا فالمعارك على المقعد عنيفة في ظل مزاج التغيير العمومي، وانقسام الجماعة حول النظرة إلى المستقبل.
عنف لا يخرج كثيراً لأنه ابن جماعة سرية. لكنه يتشابه مع ما يحدث في قصر الرئيس والمقر البابوي في الكاتدرائية. الجميع ينتظر رأي المجمع المقدس. كيان غامض يدير صراعاته بمنطق مختلف عن الماضي.
الحراك السياسي في مصر أخرج المجمعات المقدسة إلى الشارع، وفقدت إحدى مزايا صنعت أسطورتها. الخروج من غرف الكهانة كسر الهيبة وأطلق العنان لأحلام شخصية في الوصول إلى مقعد البطريرك، الأب والحامي والمستمتع بالطاعة والولاء.
تفكيك القداسة بدايته من الرئيس. وعندما تعدل الدستور ليصبح الترشيح للرئاسة من حق الجميع، فإنه، رغم الحواجز والأسوار، تملك المجتمع أداة (يمكنها أن تتطور أو تصبح واقعاً ملموسا). هذه الأداة، رغم الحصار المضروب، ستغيّر المعادلة.
البطريرك البديل وإن كان معطوباً، فإنه يهدد البطريرك الكبير بطريقة تبدو أكثر وضوحاً في حرب محمد حبيب للوصول إلى مقعد المرشد، وحربه العنيفة لمنع دخول منافسه (عصام العريان) مكتب الإرشاد. البابا مخاوفه أكثر تعقيداً، لأن قداسته الدينية تفرض قداسة معنوية أخرى، لكنه دخل في معارك وخضع لسجالات خدشت القداسة إلى حدّ ما.
البطاركة الثلاثة يحاربون من أجل عودة القداسة. وقطع الطريق على البديل المعطوب، حتى في ظل عطبه أو نقصان إمكانيّته للاستمرار.
لكن في السياسة غير الدين. السياسة بديلها مؤقت يرتدي القداسة. والدين بديله مقدّس لا يمكن زحزحته.
كيف يحكم البدلاء المعطوبون؟ وهل يكون العطب أولى خطوات كسر القداسة؟ وهل سيتحول العطب إلى معجزة تكشف عن سحر مختفٍ في سراديب صروح البطريركيّة الجبّارة؟