بين الصيدلية والصيدلية في عين الحلوة... صيدلية. فالمخيمات هي من الأماكن التي يمكن العيش فيها في لبنان «خارج الرقابة»، وخصوصاً أن الناس متروكة لتدبير حاجاتها كيفما اتفق. هكذا يلجأ البعض إلى ممارسة الصيدلة، حتى من دون أن يكونوا قد تعلّموا المهنة أصلاً
عين الحلوة ــ سوزان هاشم
بصعوبة بالغة، تهجّئ العاملة في إحدى صيدليات عين الحلوة وصفة الطبيب التي يحملها إليها أحد المرضى. تفشل في قراءة اسم الدواء، فتطلب من المريض وصف لون العلبة وشكلها. لا يبدو الأمر مستهجناً هنا في عين الحلوة، وخصوصاً أن غالبية العاملين في الصيدليات وحتى أصحابها لم «يمرّوا» يوماً «من جانب اختصاص الصيدلة» الممنوع عليهم ممارسته، كما يقول الناشط في الشؤون الصحية في المخيم د. سمير موسى. أكثر من ذلك، يتابع موسى «نحو 3 صيدليات فقط في عين الحلوة يملكها ذوو اختصاص، فيما عشرات الصيدليات الأخرى الموزعة داخلها تدار عبر أشخاص غير حائزين حتى شهادة ثانوية». والسبب؟ هو أن «هيك هيك ممنوع إنو ندخل على نقابة الصيادلة في لبنان ونزاول المهنة، فليش لنتعذب وندرس 5 سنوات على شغلة مش مضمون نشتغل فيها؟»، تقول سارة عيسى التي تعمل في صيدلية والدها، من دون أن تكون قد وصلت في تعليمها حتى إلى المرحلة الثانوية. وتبرّر عيسى أكثر موقفها بالقول إنه «إذا كان القانون يمنع على الفلسطيني مزاولة المهنة وفتح صيدلية خارج المخيم، إلا أن الأمر هنا في المخيم متاح لنا من دون معايير أو شروط مسبقة، إذ يكفي أن تجد مكاناً وتكتسب بعض الخبرة في بيع الأدوية، وتنمي العلاقات مع الأهالي لخلق الزبائن حتى تصبح صيدلياً». هكذا إذاً، تحدد عيسى شروط مزاولة مهنة الصيدلة في المخيم، بعد تجربة عميقة في المجال الذي ورثته عن والدها. الوالد الذي لم يكن يوماً متخصصاً في الصيدلة، إلا أنه استفاد من عمله في مهنة التمريض التي كان يزاولها في دولة الإمارات العربية.
على هذا النحو تسير أمور «الصيدلة» في عين الحلوة. ففي إمكان «أي مواطن هناك أن يفتح صيدلية، وذلك في ظل غياب أي مرجعية رسمية داخل المخيم تضبط تنظيم ممارسة هذه المهنة وغيرها»، يقول موسى واصفاً الصيدليات بـ«الدكاكين»، ومتهماً «الفصائل والمرجعيات الفلسطينية بتشجيع تلك الفوضى، وخصوصاً أن كل فصيل من تلك الفصائل عندو صيدلية». ويضيف موسى «أن الكثير ممن يزاولون هذه المهنة يجهلون اسم الدواء العلمي». ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد «يُعطى المريض الدواء الخاطئ، الأمر الذي يهدد صحته وحياته». ويتابع موسى قائلاً: «معظم الأدوية تباع هنا من دون وصفة طبية، فالمريض الفلسطيني لا يلجأ إلى الطبيب، إلا إذا تفاقمت حالته الصحيّة، وفي ظل هذه العشوائية والفوضى، يباع الدواء من دون الأخذ بعين الاعتبار ما إذا كان المريض يتحسس من هذا النوع من الدواء، أو ما يمكن أن تكون له عوارض جانبية». يؤكّد الصيدلي المجاز وجيه أبو علول ما يقوله موسى، مشيراً بإزعاج إلى أن «هناك الكثير من الأخطاء التي ترتكب من معظم بائعي الأدوية، نتيجة جهلهم بالمهنة». ويؤكّد أن «معظم الصدليات بعيدة كل البعد عن الحد الأدنى من المعايير الطبية والقوانين التي تحكم هذه المهنة»، مردفاً أن «من يريد أن يزاول مهنة الصيدلة ويعمل فيها، يجب أن يكون حائزاً، على الأقل، اختصاص مساعد صيدلي». ويتخوف أبو علول من استمرار الوضع الطبي على ما هو عليه في عين الحلوة، داعياً المعنيين إلى «تنظيم شروط هذه المهنة، وخصوصاً أنها على تماس مباشر مع صحة المواطنين وسلامتهم».
يكفي أن تجد مكاناً وتكتسب بعض الخبرة في بيع الأدوية حتى تصبح صيدلياً في عين الحلوة
لكن، لا تجد هذه الدعوة صدى داخل المخيم، وخصوصاً أن هذه المهنة تعتبر بالنسبة إلى الأهالي هناك «مصلحة مريحة ومربحة مادياً نسبياً»، بحسب ما تعترف سهى عامر، العاملة في إحدى الصيدليات. هي رابحة لأن «زبائن الصيدليات لا ينحصرون فقط بأبناء المخيم، فالكثيرون منهم يأتون من خارجه، نظراً لأننا نجري حسومات بقيمة 15% على سعر الدواء، بخلاف الصيدليات اللبنانية الممنوعة من اللجوء إلى ذلك، وخصوصاً بعد مطالبة نقابة الصيادلة العاملين بوجوب الالتزام بسعر ثابت ومحدد».
تفرح عامر بما تحققه صيدليتها من أرباح، كما تفرح لأن «المخيم بحاجة إلى صيدليات نظراً للكثافة السكانية فيه، بحيث إن نسبة الأدوية التي تباع هنا، تفوق بكثير ما يُباع في منطقة صيدا».
وإذا كان «داء العشوائية» في بيع الأدوية متفشياً تفشياً واسعاً في عين الحلوة، فإن المحظورات أيضاً مباحة هنا، ويلجأ إليها الكثير من أصحاب المهنة ولو على حساب صحة المريض، منتهكين ما تفرضه أخلاقيات المهنة وآدابها عليهم. وفي هذا الإطار، يقول الصيدلي بسام الحلبي «يمكن أن تجد هنا الدواء المهرّب بكثرة، والعينات المجانية من الأدوية التي تقدم إلى الأطباء اللبنانيين، متوافرة أيضاً هنا وعلى عينك يا قانون». ويلفت الحلبي إلى «التواطؤ الحاصل بين بعض الأطباء خارج المخيم وتجار من داخله لتسويق هذه الأدوية مقابل عمولة معينة يتقاسمها الطرفان، كما أن البعض يلجأ إلى بيع أدوية منتهية الصلاحية، والمشكلة أن هناك قسماً من المرضى إما لا يجيد القراءة وإما أنه يتغاضى عن ذلك بسبب إهماله، وتكون النتيجة في جميع الأحوال واحدة: تناول أدوية من دون فعالية ومن جدوى.. في أحسن الأحوال». ويؤكد أحد سكان المخيم علاء موسى ما يقوله الحلبي عن الأدوية المنتهية الصلاحية، ويقول إنه اضطر «أكثر من مرة إلى إعادة الدواء إلى الصيدلية، بعد انتباهه إلى أنه منته الصلاحية». ولئن كان موسى قد تنبّه، إلا أن ذلك لا ينسحب على الكثيرين من أبناء المخيم الذين يتغاضون عن التاريخ «وخصوصاً أنها تباع بسعر أرخص من غيرها، والمريض في المخيم على استعداد لأن يلف جميع الصيدليات الموجودة ليوفر ولو حتى ألف ليرة»، يقول الحلبي. وإذا كانت الممنوعات مسموحة في هذه المهنة في عين الحلوة «فإن بيع دواء الأعصاب من دون وصفة طبية، هو أمر طبيعي هنا برغم خطورة تناوله عشوائياً، واللافت أن نسبة لا يستهان بها من أهل المخيم مدمنة على أدوية الأعصاب»، حسب ما يؤكد الحلبي أيضاً.
يشير أحد الناشطين الصحيين في المخيم، رفض الكشف عن اسمه، إلى أن «الكثير من الصيدليات في عين الحلوة تبيع أدوية مزوّرة أو فاسدة». لا يجد الناشط وصفاً للوضع الطبي في المخيمات الفلسطينية سوى «أنه مزر جداً ويتخطى كل الحدود الحمراء، بما يهدد حياة الإنسان». لكن، رغم كلّ هذه «الفضائح» في عين الحلوة والمخيمات الأخرى أيضاً، إلا أن أحداً لم يلتفت إلى الوضع، تحت حجة أن المخيمات «لا تدخل تحت سلطة القانون»، يقول الناشط. فما العمل عندما تصبح حياة الإنسان في خطر؟ أم أن اللاجئين ليسوا كذلك؟


لا يمكن معالجة الكارثة الصحية في المخيمات من دون تسوية واقع هذه الغيتوات التي يُتعاطى معها كأنها جزيرة منعزلة عن الدولة. هذا ما يتوصل إليه الناشط في الشؤون الصحية، الدكتور سمير موسى. فمع غياب المرجعية الموحدة داخل المخيم «سيبقى الدواء متفلّتاً من أيّة ضوابط تحكم جودته وفعاليته وهو ما يهدد حياة المريض، وخصوصاً أن مصدر الدواء غالباً ما يكون من خارج وكلاء الأدوية».