لم يعد ما يحدث على الحدود بين غزة والأراضي المصريّة سريّاً. آلات الحفر التي تنهش الأرض منذ أيام اتّضح مبتغاها: جدار فولاذي تحت الأرض لمكافحة الأنفاق. هذا ما كشفته بداية المعلومات الإسرائيلية، ودعمته شهادات سكان رفح ومصادر أمنية فلسطينية في القطاع، قبل أن يأتي تقرير فلسطيني ليفنّد الرواية الكاملة للجدار المصري
غزة ــ قيس صفدي
القاهرة ــ خالد محمود
منذ أيام، والآلات المصرية تجوب الحدود مع قطاع غزّة ذهاباً وإياباً، فيما الحفارات تغوص في باطن الأرض بحثاً عن شيء ما. المشهد يراه سكان مدينة رفح على الحدود مع قطاع غزّة يوميّاً. في بادئ الأمر، لم تكن «الحفريات» المصرية بالنسبة إلى سكان المدينة أكثر من «شأن مصري» داخل الأراضي المصريّة.
لكن الأيام كشفت أن هذا «الشأن» هو فلسطيني، أكثر منه مصريّاً، ولا سيما أن الهدف منه إغلاق آخر متنفّس هواء للقطاع المحاصر، ألا وهو الأنفاق، التي تعدّ مدينة رفح الحاضنة لها بفعل قربها من الحدود. الكشف جاء بداية عبر الصحف الإسرائيلية، غير أنه تجلّى لاحقاً بظهور انعكاسات البناء المصري على «شريان الحياة» الغزّاوي، بعدما سبّبت الحفريات المصريّة بإغلاق العديد من الأنفاق.
ويوضح أصحاب أنفاق وسكان في مدينة رفح الحدودية أنهم لاحظوا حركة ناشطة لجرافات وآلات حفر ضخمة تقوم بأعمال حفريات غير واضحة بدقة منذ أيام في الجانب المصري من الحدود مع القطاع. ويؤكد صاحب نفق مخصص لتهريب البضائع من مصر إلى غزة أن الحركة الناشطة لقوات الأمن المصرية، بمحاذاة الحدود، تزامنت مع زيارة وفد أجنبي، يعتقد أنه أميركي، للمنطقة الحدودية قبل أيام.
ويقول سكان يقيمون في منازل قريبة من بوابة صلاح الدين على الحدود الفلسطينية ـــــ المصرية إن أعمال الحفر المصرية تركزت في المنطقة الممتدة من البوابة وحتى ما بعد معبر رفح البري شرق المدينة.
وأكد مصدر أمني في غزة، لـ«الأخبار»، أن مصر باشرت بإقامة جدار من الحديد بعمق كبير في باطن الأرض بمحاذاة الحدود، لافتاً إلى أنها أنجزت بعض المقاطع من هذا الجدار. وقال إن «الجدار سبّب إغلاق عدد من أنفاق التهريب»، مقرّاً بأن «استكمال بناء هذا الجدار سيؤدي إلى أزمة حقيقية في ما يخصّ عمل الأنفاق». إلا أنه أشار إلى تمكن أصحاب أنفاق من تجاوز هذا الجدار بخرقه بواسطة الأوكسجين.
أربعة مهندسين عسكريين أميركيين يتابعون إشارات المجسّات
واختلفت تفسيرات أصحاب الأنفاق وسكان المدينة لما تقوم به قوات الأمن المصرية، وإن أجمعوا على أن الهدف من الحفريات المصرية مكافحة ظاهرة الأنفاق والتهريب من خلال شبكة الأنفاق الممتدة أسفل الحدود. ويقدر صاحب نفق عمق الحفر الأرضية التي حفرتها الآليات المصرية بأنها تترواح ما بين 18 إلى 30 متراً في باطن الأرض. ويشير صاحب نفق آخر إلى أن «الحفارات المصرية أسّست حفراً عميقة ووضعت مواسير ضخمة (أنابيب حديدية)»، معتقداً بأن الهدف من وراء ذلك «ضخّ مياه لتخريب المنطقة الحدودية والتسبّب في انهيار الأنفاق القائمة ومنع حفر أنفاق جديدة». ويوضح ثالث بأن «الحفر مرحلة أولى لبناء الجدار الحديدي والقضاء نهائياً على ظاهرة التهريب عبر الأنفاق، بمساعدة أميركية ـــــ إسرائيلية».
ما توقّعه صاحب النفق، أكده مسؤولون مصريّون أشاروا إلى أن «الجدار الذي تم تدشين عملية بنائه هو نتاج تفاهم مصري أميركي ـــــ إسرائيلي مشترك، لوقف عمليات التهريب وتمكين السلطات المصرية من مكافحتها»، مشيرين إلى أن «مصر أبرمت اتفاقاً مع الولايات المتحدة لتزويدها بمعدات متقدمة وتقنيات مستخدمة لتأمين الحدود الأميركية الكندية لزرعها داخل الجدار العازل».
وكان مصدر رسمي مصري قد أبلغ صحيفة «الشروق» القاهرية بأن أعمالاً تجرى على الحدود الشرقية لمصر «لتحصين أمن منطقة الحدود» لضمان عدم تكرار اقتحام مواطني غزة للأراضي المصرية، كما حدث في كانون الثاني عام 2008، وما أعقب ذلك من «فوضى كبرى». وأضاف أن هناك نشاطاً «يرتبط بعمل أجهزة رصد الأنفاق»، مشدداً على أن «مهما كان ما نقوم به على الحدود، فهو شأن مصري بحت يرتبط بممارسة حقوق السيادة الوطنية، وما يحدث على الجهة الأخرى هو شأن الجهة الأخرى».
لكن التبريرات والإيضاحات المصريّة غير كافية لتفنيد قصة الجدار، وهو ما تكفّلت به وكالة «معا» الفلسطينية، المقرّبة من رئيس حكومة تصريف الأعمال سلام فيّاض، إذ نشرت تقريراً عن تفاصيل ما يحدث في المنطقة الحدودية بين مصر وقطاع غزة.
تفاصيل تشير في المقام الأول إلى أن الولايات المتحدة قررت صرف ملايين الدولارات لتدعيم الحدود المصرية مع قطاع غزة بأحدث الوسائل التكنولوجية للقضاء على ظاهرة الأنفاق، فكانت هناك خطط عسكرية أميركية جرى تنفيذها على مرحلتين.
المرحلة الأولى، التي بدأت قبل عام تقريباً، كانت تشمل تركيب مجسّات للكشف عن الأنفاق، وهي أجهزة جيولوجية ذات تقنيات عالية في الكشف عن الصوت والحركة في باطن الأرض وعلى أعماق كبيرة.
زرع المجسّات، التي لا يزيد حجمها عن قبضة اليد، يتم إنزالها عن طريق كابل إلكتروني عبر مواسير حديدية تزرع بعمق يصل إلى 15 متراً، على أن يرتبط كل مجسّ بلوحة إلكترونية وجهاز كمبيوتر لاستقبال أي إشارات يصدرها. إشارات يتم تسجيل إحداثيتها على شاشة كمبيوتر وطبع تقرير تفصيلي عن مصدر الصوت والحركة الواردة، بمتابعة من أربعة مهندسين عسكريين أميركيين يقومون على الفور بإبلاغ الجانب الإسرائيلي بإحداثية النفق ومكانه وتوقيت عمليات التهريب بداخله.
وبعد اقتراب المرحلة الأولى من النهاية، بدأ العمل على المرحلة الثانية من المشروع الأميركي، المتمثّلة بعملية بناء الجدار الفولاذي، الذي سينفّذ على مدى عام ونصف عام.
صناعة الألواح الفولاذيّة تمّت في أحد مصانع الولايات المتحدة وجرى نقلها سرّاً إلى مصر
ورغم أن الكشف عن عمليات البناء لم تتم إلا قبل أيام، إلا أن تقرير الوكالة الفلسطينية يؤكّد أن الحفريات بدأت قبل نحو ستة أشهر في سرية تامة، بعلم الحكومة الإسرائيلية. ويقوم المشروع على وضع ألواح معدنية فولاذية بطول المنطقة الحدودية المتفق عليها، على طول 11 كيلومتراً من الحدود الفاصلة بين مصر وقطاع غزة، التي يبلغ طولها نحو 13.5 كيلومتراً، أي استثناء 3 كيلومترات التي تنعدم فيها عمليات حفر الأنفاق بسبب نعومة تربتها الرملية.
المساهمة الأميركية لن تكون فقط بالتمويل والتخطيط والإشراف، حسبما تفيد الوكالة نفسها، بل حتى بصناعة الألواح الفولاذيّة، التي تمّت في أحد مصانع الولايات المتحدة، وجرى نقلها إلى مصر بحراً، ومن ثمّ نقلتها شاحنات مصرية عسكرية من أحد الموانئ على البحر الأبيض المتوسط إلى المنطقة الحدودية في رفح.
ونقلت «معا» عن شهود ملاحظتهم لشاحنات الألواح الفولاذيّة. وبحسب الشهود، فإن طول اللوح الواحد منها يصل إلى نحو 18 متراً، وعرضه 50 سنتيمتراً وسماكته نحو 5 سنتيمترات، وهي مصمّمة على شكل لعبة «البازل» للأطفال. وقد أجريت اختبارات عديدة ناجحة على مدى صلابة واحتمال هذه الألواح المصمّمة ضد أي اختراقات معدنية أو تفجيرية بالديناميت. وتمّ غمسها في باطن الأرض باستخدام معدّات مخصصة لحفر آبار المياه، التي تقوم بحفر طولي يصل إلى 20 متراً ويتم وضع اللوح المعدني، ثم الضغط عليه إلى أسفل بعمق مترين.
وبحسب التقرير، فقد تم تحديد مكان لبناء هذا الجدار الحدودي على مسافة نحو من 70 إلى 100 متر عن الجدار الخرساني الفاصل مع قطاع غزة في الجانب المصري، حيث صادرت السلطات المصرية جميع الأراضي وتمّ تعويض المواطنين المصريين أصحاب الأراضي والمزارع المطلّة على المنطقة الحدودية بمبالغ مالية باهظة. وجرى قطع مئات الأشجار في المنطقة المذكورة لإتاحة الفرصة لبناء هذا الجدار، الذي يشرف العسكريون الأميركيون على إنشائه عبر زيارات مستمرة إلى المنطقة.
وتطرّق التقرير إلى أنباء عن أن المشروع الأميركي سيتضمّن بناء بوابات إلكترونية حديثة، اثنتان منها على مداخل مدينة رفح المصرية بهدف الكشف عن المتفجرات والسلاح وأي معادن. كما أن هناك أنباء عن أن كتيبة أميركية ستحضر إلى شمال سيناء للانضمام إلى معسكر قوات حفظ السلام للإشراف على المنطقة الحدودية على جانب الأمن المصري، وهو ما كشفت عنه زيارات مفاجئة قام بها وفد عسكري أميركي مكوّن من ثلاثة أشخاص تابعين لقوات البحرية لمستشفى مدينة العريش قبل ثلاثة أشهر، وطلبوا من الأطباء المصريين معلومات عن قدرة المستشفى على استقبال أي حالات طارئة لجنود أميركيين.


نفق سيّارات

أعلنت مصادر أمنية مصرية، أمس، أن الشرطة المصرية عثرت على نفق لتهريب السيارات إلى قطاع غزة تحت خط الحدود بين مصر وقطاع غزة. وتقع فتحة النفق، التي عثر عليها في الجانب المصري، على مسافة نحو 300 متر من خط الحدود، وإن حراسة مشدّدة فرضت عليها إلى أن يتم تدمير النفق. وأوضحت المصادر أن قطر النفق يبلغ نحو مترين ونصف متر، وأن فتحته في الأرض المصرية هي منحدر مدعّم بالخرسانة المسلحة يسمح بنزول السيارات إلى الداخل لسحبها في مسار النفق إلى الجانب الآخر من النفق. وتابعت أن السلطات المصرية ضبطت نفقاً مماثلاً قبل نحو ستة أسابيع ودمرته. وتقول المصادر الأمنية إن مئات الأنفاق السرية مقامة تحت خط الحدود، وهي تستخدم في تهريب البضائع إلى القطاع الذي تحاصره إسرائيل.
(الأخبار)