برغم أن الخطاب السياسي الإسرائيلي الرسمي يشدد على دور رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، في التحريض على إسرائيل، وتحميله مسؤولية ما يجري في الضفة والقدس، فإن تقدير الاستخبارات العسكرية في إسرائيل «أمان»، خلص إلى أن «أبو مازن لا يحرّض على إيذاء الإسرائيليين»، بل على العكس، يصدر الأوامر لأجهزة الأمن الفلسطينية للعمل ضد «العنف الذي نشب في الأسابيع الأخيرة»، مع إدراكه أن لا تسوية سياسية تلوح في الأفق، في ظل وجود الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الحالي على الأقل.
مع ذلك، يشير التعارض بين تقدير «أمان» والسماح بخروجه إلى العلن، وبين موقف كل من بنيامين نتنياهو ووزرائه، إلى حقيقة أن الخطاب الرسمي الإسرائيلي الذي يقوم على توجيه الاتهامات لعباس، هو لغايات سياسية ولا ينبع من تقديرات فعلية تحاكي حقيقة ما يجري، بل تأتي ترجمة لسياسة تضليل متعددة الأهداف داخلياً وخارجياً. أيضاً، إن هذا النوع من التقدير يساعد نتنياهو على وقف التجاوب مع دعوات يمينية متطرفة بالذهاب نحو خيارات أمنية متطرفة، من باب التنافس السياسي الداخلي، عبر الكشف عن تقديرات الأجهزة الأمنية التي ترى أن السلطة تؤدي دوراً في التهدئة، وأنه لا يزال بالإمكان الرهان عليها للعودة إلى الهدوء الذي كان سائداً من دون الاضطرار إلى خيارات إشكالية، قد تترتب عليها أثمان أمنية وسياسية.
في هذا السياق، ذكر موقع «يديعوت أحرونوت»، أنه في الأسابيع الأخيرة رأى عدد من الضباط الرفيعي المستوى في الجيش الإسرائيلي، أن عباس ومعه مسؤولون كبار في أمن السلطة، يشكلون عامل كبح في الضفة، في إشارة إلى دوره الأساسي في منع التظاهرات ومواجهة المستوطنين والجنود. وأكد هؤلاء أن أجهزة الأمن الفلسطينية تواصل التنسيق مع الجيش لتهدئة الوضع. لكنهم، في الاستخبارات العسكرية، يرون أن الاتجاه الحالي مقلق، لجهة أن «ذوبان» المبادرة السياسية لعباس في الأمم المتحدة (بإعلان دولة فلسطينية بشكل أحادي) أدى إلى ضعفه في الأوساط الفلسطينية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تقويض السلطة التي هي عامل يمنع نشوب انتفاضة أخرى. ويقدرون في «أمان»، أيضاً، أن «أبو مازن» ما زال متمسكاً بالصراع غير العنيف ضد إسرائيل، مع أنه يُسلِّم بحقيقة أن المسار السياسي وفق شروطه غير قابل للتنفيذ في ظل القيادة الإسرائيلية الحالية، ونظرته إلى الإدارة الأميركية.
موقع «يديعوت» نقل أن «مكافحة أبو مازن للعنف الفلسطيني ضد إسرائيل» تجسد عملياً مرات عديدة في الأسابيع الأخيرة، وخاصة في اليوم التالي لحرق عائلة دوابشة، فيما استطاعت الأجهزة الفلسطينية منع المتظاهرين من التوجه إلى مراكز المدن.
وتلفت «أمان» إلى أن هناك مجموعتين حاسمتين خارج إطار جولة التصعيد الحالية: الأولى الجمهور الفلسطيني، والثاني التنظيم. وفي ما يتعلق بالجمهور ترى الأجهزة الإسرائيلية أنه لم ينضم بصورة واسعة إلى حركات الاحتجاج. وهو ما يظهر في مشاركة المئات في التظاهرات الحالية في كل نقطة. ورأت أن ذلك يعود إلى أن نسيج الحياة للفلسطينيين لم يتضرر حتى الآن، وفي حال حدوث ذلك، عبر عودة الحواجز وإلغاء إجازات التنقل في الضفة، يمكن أن يُصار إلى «تسريع انضمام الجمهور الفلسطيني إلى التظاهرات»، وهذا ما يتطابق مع ما نُقل قبل أيام بأن الأمن الإسرائيلي أوصى برفض تبني خيارات متطرفة حتى لا تؤدي إلى نتائج عكسية.
ولجهة التنظيم، وفق «يديعوت»، فهم «مسلحو مخيمات اللاجئين الذين بحوزتهم كميات كبيرة من السلاح»، وفي حال انضمام هؤلاء إلى دائرة التصعيد سيجري «تطرف نوعي يؤدي إلى آثار جوهرية على الطرفين». وأضاف الموقع: «ما دامت هاتان المجموعتان خارج إطار هذه الجولة، لا يزال التصعيد الحالي تحت السيطرة نسبياً». وبشأن موقف حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، ترى تقديرات الاستخبارات أن «حماس» في قطاع غزة «ستواصل الجلوس جانباً في ظل التصعيد الحالي في الضفة، ولن تتدخل عملياً عبر تنفيذ عمليات أو إطلاق صواريخ على إسرائيل»، لكنها رأت أنه يمكن أن يفعل ذلك «عناصر الجهاد الإسلامي في القطاع». بجانب هذا، ترى «أمان» أن «حماس في الضفة تحاول إعادة بناء قوتها العسكرية التي لم تعد قائمة حالياً بصورة منظمة بسبب سياسة جزّ العشب التي يتبعها الشاباك والجيش إلى جانب الأجهزة الأمنية ضد نشطائها». وأضافت التقديرات الإسرائيلية أن «حماس بدأت في الأشهر الأخيرة مساراً بطيئاً وعميقاً في بناء بنية تحتية عسكرية في المدن الفلسطينية. ووفق هذا المفهوم لم تبادر إلى شراء الأسلحة أو الخروج لتنفيذ عمليات، وإنما الاستعداد والتخطيط لعمليات على المدى البعيد. وتقدر الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية أن منفذي عملية «ايتمار»، قبل أيام، لم تمولهم «حماس الخارج» أو توجههم.
أما عن اليوم التالي لرحيل عباس، الذي بلغ 81 عاماً، فلفت موقع «يديعوت» إلى أن النقاشات حول هذه القضية بلغت أعلى مستويات في الاستخبارات، وأدرج ضمن لعبة الحرب، مع التشديد على أنّ من غير المعروف من سيكون وريثه بالضرورة في رئاسة السلطة، وإنما تم بحث وضع مؤسسات السلطة بعد رحيله، وهل سيؤدي الصراع على خلافته إلى «نشوب عنف» صادر عن عناصر «التنظيم» الذي يضم الآلاف ويملكون السلاح غير الموجه حالياً ضد إسرائيل. وأخيراً، يشير الموقع إلى أن استطلاعات الرأي الحالية تظهر أن الأسير مروان البرغوثي يحتل المرتبة الأولى وسط الجمهور الفلسطيني، فيما محمد دحلان أو جبريل رجوب، يحتلان مراتب متدنية.