أضافت الأزمة الأخيرة لدبي، ثم قمّة مجلس التعاون الخليجي التي عُقدت في الأسبوع الماضي في الكويت، إخفاقاً جديداً إلى سلسلة طويلة من الإخفاقات، لا في الخليج فحسب، بل في المنطقة العربيّة برمّتها
حسن خليل
لا تمتلك مجموعة دول مجلس التعاون الخليجي مقومات الاتحاد فقط، بل تمتلك أيضاً مقوّمات حدود الدولة الواحدة. فدول المجلس الست (السعودية، الكويت، الإمارات، البحرين، قطر وعُمان) تتشارك بجذور عرقية وأنظمة ودين ولغة وعادات وتقاليد ومجتمعات متشابهة، وكل هذه العناصر تؤهّلها لتكون قدوة العمل العربي المشترك، ولا سيما الخليجي. فما الذي يعوق تنفيذ الخطط الموضوعة لذلك؟ ولماذا ينجح الاتحاد الأوروبي في ضمّ دولٍ يختلف بعضها عن بعض في كل الأمور، فيما تفشل دول الخليج المتجانسة؟
كان وراء إنشاء مجلس التعاون الخليجي سنة 1980 ثلاثة أسباب سياسية رئيسية (على عكس ما يعتقده البعض عن الحوافز الاقتصادية): الثورة الإسلامية في إيران، والخطر الذي استشعرته دول المنطقة نتيجتها، الابتزاز المستمر لنظام صدام حسين في العراق تجاه دول الخليج، وفي مقدّمها الكويت، والوجود العسكري السوفياتي في أفغانستان، وما ترتّب عليه من اتجاه لخلق حماية مشتركة مع الغرب.
إلا أن القراءة المعمّقة لهذه الأسباب الثلاثة، تُظهر أن «الخطر الإيراني» كان هو الهاجس الأول، متخطياً في السرّ والعلن خطر إسرائيل، من دون التقليل من أهمية السببين الآخرين، على الرغم من زوالهما حالياً. ومنذ تأسيس المجلس، بدا أن إمكان التوافق صعب في اتحاد تبلغ مساحة دولة واحدة منه (السعودية) أكبر من مجموع الدول الخمس الأخرى مجتمعة. هذا الواقع لطالما وضع علامات استفهام حول تقاسم النفوذ في القرارات الاستراتيجية، فلم يكن ممكناً للبحرين أو عُمان، على سبيل المثال، أن تحظيا بالحقوق نفسها التي تحظى بها السعودية، وهذا بالطبع منافٍ للسياق الطبيعي في علاقات الدول. هذا الأمر ينطبق أيضاً على الجوانب المالية والاجتماعية، إذ إن عدد سكان السعودية أكثر من نصف العدد الإجمالي لسكان المنطقة، واقتصادها وإنتاجها النفطي أكبر بأضعاف.

الاقتصاد والمال

نظرياً، سارت دول مجلس التعاون على خريطة الطريق نفسها التي اتبعتها دول الاتحاد الأوروبي بالنسبة إلى إنشاء مؤسسات معنية بتنظيم شؤون الاتحاد وإبرام اتفاقيات متعددة الجوانب تتعلق بالحدود والأمن والعسكر والبيئة والمال والاقتصاد والجمارك وانتقال المواطنين إلخ... لكنها ما زالت بطيئة في عملية التنفيذ الفعلية، حتى إن السعودية أبطلت مفعول اتفاقية الانتقال بالبطاقة الشخصية بينها وبين دولة الإمارات بعد انسحاب أبو ظبي من العملة الموحَّدة، رداً على رفض السعودية أن يكون مقر المصرف المركزي الخليجي فيها.
واقع التعاون العسكري والسياسي بين دول الخليج يدفع إلى المزيد من التشاؤم
اتفاقيات عديدة أُبرمت، لكن حجم التجارة البينية بين دول الخليج ما زال متواضعاً (64 مليار دولار سنة 2008)، مع العلم بأنه تضاعف من نحو 20 مليار دولار قبل إقرار اتفاقية الاتحاد الجمركي سنة 2003، ولكنه ما زال صغيراً نسبة إلى مجموع التجارة الخارجية (640 مليار دولار، أي 10% فقط) ونسبة إلى حجم الناتج المحلي المجمّع (630 مليار دولار).
يبقى فشل إقرار العملة الموحدة التي كان من المفترض بدء العمل بها في كانون الثاني 2010 من أهم رموز إخفاق العمل المشترك. فجميع دول مجلس التعاون لديها عملات مربوطة بالدولار ومضبوطة من المصارف المركزية (ما عدا الكويت التي ربطت الدينار بسلّة عملات أخيراً)، وبالتالي فهي مهيّأة للتجانس والاندماج في عملة موحدة أكثر من أية دولة في المجموعة، إذ إن آليات الاحتساب لتسعير كل عملة مقابل العملة الجديدة الموحدة تصبح بسيطة مقارنة بدول أخرى.
وبدلاً من أن يكون ارتفاع سعر النفط في السنوات الخمس الماضية حافزاً لتسريع الاندماج الاقتصادي والنقدي، اهتمت معظم دول الخليج باقتصاداتها المحلية، كلّ حسب أولوياته. فالسعودية اضطرّت إلى معالجة مشاكل جذرية فيها تتصل بالبطالة وارتفاع عدد الشباب دون 25 سنة، والسكن، والطبابة، والبنية التحتية، بينما «فلشت» دول أخرى كالإمارات (دبي وأبو ظبي) والكويت وقطر استثماراتها في اتجاه الخارج، البعض منها أدّى إلى كوارث مالية، فضلاً عن الانفلاش العقاري الذي كان في جزء كبير منه لمجرد التقليد والمنافسة مع الجوار في التطوير.
فشل مجلس التعاون في أن يتّبع سياق الاتحاد الأوروبي في تفعيل التعاون المالي، إلى درجة أن اجتماعات وزراء المال والاقتصاد خلال السنوات الثماني الماضية، التي سبقت إطلاق العملة الموحدة في 2010 كانت قليلة، وما حصل منها كان غير فعال.
كما في السياسة، كذلك في الشؤون المالية، فالإمارات انسحبت في أوائل عام 2009 من اتفاقية العملة الموحدة نتيجة عدم تلبية طلبها أن يكون المركز الرئيسي للمصرف الخليجي المركزي في أبو ظبي. والكويت، التي وقّعت بتردّد، ظلّت قلقة من فكّ ارتباط دينارها بسلّة عملات وإمكان الضغط عليها للعودة إلى الربط بالدولار. أمّا عُمان فكانت غير معنية بتعاون عسكري ولا سياسي، والأكيد غير مالي.
انتهت القمة الخليجية الأخيرة بإعلان خجول عن دعم «جهود إنشاء العملة الموحدة»، وهذا بدلالته إعلان فشل صريح لاعتمادها، جرى تمويهه بإقرار إنشاء صندوق نقد خليجي نتيجةً للإقرار السابق بشأن مجلس اتحاد نقدي، مع العلم بأنه لم يباشر حتى الآن بإيجاد الكادرات البشرية له. من المؤسف أن إعلان سنة 2001 عن اعتماد عملة خليجية موحّدة جاء بعد أسابيع قليلة من بدء العمل باليورو، وهذا دليل على فشل لا مبرر له في ضوء الإيجابيات المتاحة أمام دول الخليج، يرافقه غياب الزخم المفروض أن يرافقه في إنشاء مجلس التعاون على سائر النشاطات الاقتصادية والبشرية. هذا مع العلم بأن لجنة التعاون المالي والاقتصادي أقرّت في أيار/ مايو 2007 طريقة حساب المعايير المالية والنقدية والنسب المطلوبة التي على الدول أن تعمل بها على غرار اتفاقية ماستريخت في الاتحاد الأوروبي التي أُقرت سنة 1993.

ماذا عن الدفاع والسياسة؟

واقع التعاون العسكري والسياسي بين دول الخليج يدفع إلى المزيد من التشاؤم، ما دفع أحد رؤساء التحرير في جريدة رئيسية مموَّلة سعودياً إلى الكتابة في مقالته: «لن أتحدث عن الملفات السياسية والاقتصادية ومشكلات الحدود وبرنامج إيران النووي والإرهاب، فقد شبعت ضرباً وستبقى علكة تمضغها أقلام الكتّاب سنوات طويلة. فما يعنيني هو لفت نظر قمة الكويت إلى الملفات الشعبية العالقة منذ 30 عاماً على ظهر سلحفاة لكونها تغوص في بحر بيروقراطي عميق». وانتهى بالقول: «يجب أن يدرك رجال السياسة في البلدان الخليجية أن شعوبهم ليست في مدرّجات المتفرجين لتقليد سعال الحكومات وترديد «خليجنا واحد، مصيرنا، وشعبنا واحد»، يجب سماع صوتها».
هناك من يدّعي أن أبوظبي تعاقب دبي نتيجة عدم تنسيقها في الانفتاح على إيران معها
تعاون عسكري سيئ، يرافقه تعاون سياسي أسوأ. لم تكد تمضي ثلاثة أعوام على إنشاء مجلس التعاون حتى اتُّفق سنة 1984 على إنشاء قوات عسكرية تحت اسم «درع الجزيرة» تتمركز في حفر الباطن شرق السعودية. بدأت هذه القوات بـ5 آلاف عنصر، لكنها فشلت في أداء أي دور إيجابي منذ الغزو العراقي للكويت سنة 1990، وانتهت بقرار تفكيكها وإعادة تمركزها في بلدانها الأصلية مع إبقاء قيادتها المركزية في السعودية.
تبيّن أن دول الخليج، بما فيها السعودية، أسيرة لواقعها الديموغرافي والجيوسياسي، فتنافست لإنجاز اتفاقيات أمنية مبطّنة مع دول الغرب، أهمها أميركا، فرنسا وبريطانيا، تعطيها حداً أدنى من الطمأنينة ضمن معادلة أساسية تشترك فيها كل الدول المعنية: ضمان ضخ النفط مقابل ضمان أمن الدول والأنظمة. فأبو ظبي تضمّ أكبر قاعدة عسكرية وبحرية فرنسية، وقطر تضم أكبر قاعدة عسكرية أميركية، والبحرين تضم أكبر قاعدة بحرية أميركية. الكويت رأت بعد تجربتيها السابقتين أن حمايتها مكفولة دولياً، بينما عُمان نسجت أمناً تاريخياً من خلال العلاقة مع بريطانيا (كما البحرين) وأخيراً مع الولايات المتحدة، ضمن توازن في العلاقات الإقليمية مع إيران، كما فعلت دبي وقطر. لكن هذا له ثمن. فدول مجلس التعاون من أكثر الدول إنفاقاً عسكرياً اليوم، حيث أنفقت أكثر من 233 مليار دولار خلال الفترة 2000 ـــــ 2005 أي 4% من الإنفاق العسكري العالمي و54% من الإنفاق الشرق أوسطي. وتستحوذ السعودية على 71% من الإنفاق الخليجي. أما الإمارات فهي حسب تقرير لمعهد استوكهولم في المركز الثالث في قائمة أكبر مستوردي السلاح في العالم سنة 2008 وللعام الخامس على التوالي بعدما كانت تمثّل 6% من واردات السلاح في العالم وهي تمثّل 40% من إجماليّ النفقات الحكومية... كل هذا الإنفاق و40 ألف جندي أميركي في المنطقة يجسّد قلق دول الخليج عموماً من الجار الإيراني الذي تتنازع معه الإمارات على سيادة ثلاث جزر: طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى.
وإذا كان العامل الإقليمي وهواجسه قد برر الاتفاق العسكري واستضافة القواعد الأجنبية، فإن الخلافات والتوترات المتقطعة بين دول مجلس التعاون محفّز آخر. علاقات متوترة تعود أسبابها إلى التفاوت في قدرات دول المجلس السكانية والاقتصادية والعسكرية، وآخرها السياسية.
فالسعودية، البلد الأكبر مساحة وإمكانات، التي سُهّلت لها قيادة المجلس منذ نشأته، لا تريد الاعتراف بأن غيرها من الدول، بغضّ النظر عن أحجامها، تطمح إلى أداء دور سياسي مؤثر، وهو ما أسهم إلى حد بعيد في تأجيج خلافاتها مع قطر والإمارات، فضلاً عن خلافها الحدودي التاريخي مع قطر واليمن، «العضو اللاعضو».

الشقاق بين الجيران

خلافات مضمَرة ومستورة، وأخرى علنية منها: سعودي ـــــ قطري منذ ما قبل تولّي الأمير الحالي وبعده، وسعودي ـــــ إماراتي، وقطري ـــــ بحريني حُلَّ فقط في محكمة لاهاي سنة 2001 لا في مؤسسات مجلس التعاون، وكويتي ـــــ عراقي (العضو المراقب اللاعضو). كل هذه الخلافات خفّت حدّة التوتر فيها تحت ضغط المثلّث المحيط بها: إيران، العراق واليمن (الذي تعارضه الكويت نتيجة موقفه خلال الاجتياح).
الانقسام السياسي بين كتل المنطقة أظهر غياب تجانس الأهداف والاستراتيجيات بين دول مجلس التعاون أيضاً. إذ انعكست عليه خريطة الاصطفاف الحادّ الذي برز في المنطقة بين «دول الاعتدال» كبعض الخليج ومصر، و«دول المواجهة» كسوريا ولبنان، ودول اللامبالاة كعُمان ودول المغرب العربي.
قطر وحدها قادرة ضمن جغرافيتها المتواضعة وإنجازها لقناة الجزيرة على أن تتموضع ضمن كل هذه التناقضات
بخلاصة موجزة، بدت عُمان تتصرف كأنها فاقدة الأمل من أي تعاون خليجي أو عربي. والبحرين مغلوبة على أمرها بحكم حجمها وجغرافيتها على حدود المنطقة الشرقية من السعودية تعيش يومياً هاجس ديموغرافيتها غير المتوازنة مع نظامها ودنوّه من شيعة السعودية وإيران، الكويت تعلمت بلمس اليد معنى الخطر الداهم المستمر على دول صغيرة من جارات كبيرة، ولن تساوم في موضوع تعرضها للخطر مرة أخرى إلا من خلال تحالف دولي. الإمارات والسعودية أكثر مَن يشعر بالخطر الإيراني وتتصرفان على أساس أن الصراع قائم، لكن ضمن تفاوت في الرأي ضمن الدولة الواحدة. فهناك من يدّعي أن أبو ظبي تعاقب دبي نتيجة عدم تنسيقها في الانفتاح على إيران معها، وأنها لم تتحرك لإنقاذها في اللحظة الأخيرة إلا لتفادي الإحراج بعد التطوّع الكويتي للمساعدة. وفي السعودية جناحان واضحان بين «التطرف والتصعيد» إلى «التقارب والاحتواء». قطر وحدها قادرة ضمن جغرافيتها المتواضعة وإنجازها لقناة الجزيرة على أن تتموضع ضمن كل هذه التناقضات.

إلى أين؟

بات واضحاً أنّ لدى دول مجلس التعاون الخليجي مقوّمات تتفوق على الكثير من التكتلات الإقليمية التي تنتشر بين القارات، بدءاً من الاتحاد الأوروبي مروراً بأميركا الشمالية وأميركا اللاتينية، وصولاً إلى قلب آسيا. لكن تبقى الأمور وتطوراتها رهينة إرادة سياسية مرتبطة إلى حدّ كبير بعوامل مزاجية ونفسية وشخصية للحكام والأنظمة، علّها تعتبر من خلالها أن الإيجابيات الاقتصادية والسياسية والعسكرية من خلال العمل المشترك للدول المعنية أهم من الغطرسة وحبّ الذات والرغبة في المنافسة، التي تمثّل بذاتها عوائق الخروج من البداوة إلى الحداثة.