ما بين نتائج عدوان إسرائيل على قطاع غزة، وما كشفه العدوان من واقع كان موجوداً في الأصل لدى الفلسطينيين من قدرة ومنعة، حدّ فاصل بسيط وشفاف جداً، لم يكن ملحوظاً عشية إصدار أمر العمليات العسكري لضرب القطاع
علي حيدر
لم يكن بإمكان الرؤى الإسرائيلية تجاه واقع فلسطينيي قطاع غزة وقدرتهم القتالية ومنعتهم السياسية أمام التحديات على أنواعها، أن تتبلور من دون خوض غمار مقاربة عسكرية إسرائيلية كبيرة، على غرار «عملية الرصاص المصهور».
وبعيداً عن الخسائر البشرية والمادية في الجانب الفلسطيني، وطريقة الحساب الضيقة للنتائج، يمكن الإشارة ابتداءً إلى أن واقع حركة «حماس» والنهج المقاوم في قطاع غزة، أصبح بعد عام على العدوان أكثر منعة واستقراراً وثباتاً عمّا كان عليه قبل العدوان. ويمكن القول إن إحدى النتائج غير المباشرة للعدوان نفسه كانت تعزيز قدرة «حماس» على كل صعيد، وبات التساؤل المطروح في كانون الأول عام 2008، عن قدرة صمود غزة ومنعتها، غير ذي صلة بواقع الأمور في كانون الأول عام 2009. من هنا يمكن الاستنتاج، من دون أي مجازفة، إن إسرائيل فشلت في عدوانها على القطاع، رغم كل ما سببته الآلة العسكرية الإسرائيلية من خسائر مادية وبشرية.
برز قبل العدوان الإسرائيلي الأخير على القطاع، العديد من التساؤلات لدى كل من الإسرائيليين وبعض الأنظمة العربية والسلطة الفلسطينية، عن قدرة «حماس» على الثبات والصمود أمام التحديات المختلفة، وتحديداً إذا دقت ساعة الاختبار الحقيقي. وقرر العدو الزجّ بجيشه في عملية عسكرية واسعة في غزة، وكان التقدير الإسرائيلي، وبعض العربي، أن «حماس» وبقية الفصائل لن تستطيع الصمود والبقاء أمام عملية عسكرية واسعة كالتي شهدتها الضفة الغربية في نيسان 2002، وحملت اسم «السور الواقي».
هذه التقديرات أصبحت خارج السياق بعد عام على العدوان، بعدما أثبتت الحركة قدرتها على احتواء التحديات، بل وتعزيز منعتها رغم كل الصعاب والعراقيل التي أوجدتها المقاربة العسكرية العدائية للقطاع. وباتت مسألة سقوط «حماس» نتيجة للضغوط، خارج إطار النقاشات والجدال. وهكذا كشف العدوان عن واقع أصبح الإقرار به حقيقة راسخة، وأظهر أن التقديرات التي شُنَّت على أساسها الحرب لم تكن تستند إلى فهم وإدراك سليم للواقع السياسي والأمني الذي تكوّن في أعقاب سقوط سلطة محمود عباس في غزة.
قبل العدوان على غزة، كانت هناك رؤية مفادها أنّ النظام المصري يملك كلمة الفصل في تحديد مصير سلطة «حماس» في غزة. وكان يُنظر إلى الدور المصري على أنه فاعل مكتمل القدرة لإطباق دائرة الحصار التي يفرضها العدو على القطاع، من خلال إغلاق معبر رفح ومنع كامل لوصول الموارد الضرورية للفلسطينيين.
ورغم قدرة النظام المصري الكبيرة على الإضرار بالشعب الفلسطيني الغزاوي، ورغم الأوراق التي يمتلكها لابتزاز القطاع والمقاومة فيه، إلا أن الواقع الذي تكشّف خلال العدوان وفي أعقابه، لم يكن كما كانت التقديرات. إذ بالرغم من استبسال النظام المصري في إحكام الطوق على القطاع خلال العدوان وبعده، أثبتت «حماس» استقلالية قرارها وتحرره من أي قيود تحول دون مواصلة رفضها الرضوخ للشروط الإسرائيلية والأميركية، ولم يتمكن النظام المصري من أن يؤدي البضاعة التي كان يأملها العدو الإسرائيلي.
وأكثر ما تمثّل ذلك في رد حركة «حماس» على الطروحات التي قدمتها القاهرة، الذي أوضح محدودية القدرة المصرية على التحكم بالقرار السياسي للمقاومة في قطاع غزة عبر إصرار الأخيرة على رفض الشروط «المصرية»، التي ليست سوى محاولة تثمير سياسي للعداون الإسرائيلي بهدف إخضاع الحركة الإسلامية للمعادلة التي فرضها منطق اتفاق أوسلو، وما تنطوي عليه من وجوب التحرك ضمن السقوف السياسية والأمنية التي حددها هذا الاتفاق، رغم أن إسرائيل نفسها لم تتقيد بها طوال السنوات الماضية.
وفي سياق نتائج العدوان شبه المباشرة، تجدر الإشارة أيضاً إلى تحقيق فرملة لحركة التنازلات التي أقدم عليها الطرف الفلسطيني الرسمي منذ اتفاقات أوسلو وما تبعها من اتفاقات وتفاهمات لاحقة. بل استطاعت حركة «حماس» فرض واقع سياسي وميداني ثبت بالتجربة العملية أنّ من الصعب على إسرائيل والطرف العربي المتحالف معها، أن يتجاوزها ليفرض الصيغ التسووية الأميركية الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني. وما كان ذلك ليتجلى ويظهر إلى الواجهة، لولا العدوان الإسرائيلي وفشله في تحقيق أهدافه، أقله لجهة أهدافه السياسية الاستراتيجية.
وكما هي الحال في كل عدوان إسرائيلي، كان واضحاً منذ البداية استهداف الجيش الإسرائيلي للمدنيين الفلسطينيين وبناهم التحتية، استهدافاً متعمداً ومدروساً ومنهجياً، في رهان على إيجاد رأي عام شعبي ضاغط على «حماس» ودفع الجمهور الفلسطيني إلى الانفضاض من حولها، بل وإلى الانتفاض عليها. وكانت المراهنة الإسرائيلية شبه كاملة على إمكان إيجاد الظرف الملائم لتفعيل هذا الواقع المأمول، وهي مراهنة لا تزال مستمرة إلى الآن، رغم تدني مستواها إلى حد أدنى مع مرور الزمن، الأمر الذي يفسر القرار السياسي الإسرائيلي والعربي بمواصلة الحصار وعدم السماح للشعب الفلسطيني في بناء ما دمرته الآلة العسكرية الإسرائيلية خلال العدوان.
لا يخفى أن أحد أهم استهدافات إسرائيل في حربها على قطاع غزة، كان تطويع القرار الفلسطيني، كي تكون لاعباً شبه وحيد على طاولة المفاوضات في محاولة لفرض تسوية تتوافق مع المصلحة الإسرائيلية وإمرارها في الشارع الفلسطيني، الأمر الذي يفرض على الدولة العبرية ضرب وجود «حماس» في الساحة وتأثيرها على القرار السياسي للسلطة بخصوص التسوية، التي لا تستطيع، مهما حاولت المكابرة، تجاهل وجودها وموقفها.
بعد عام على العدوان على القطاع، تقف غزة أكثر قوة ومنعة أمام أي محاولة لتصفية القضية الفلسطينية، وأكثر اقتداراً على مواجهة أي عدوان جديد، وأكثر رسوخاً بعد تبدد أوهام الأنظمة وتقديراتها التي طالما راهنت على شطب المقاومة من الساحة كي تتمكن من إمرار الصفقات التي طالما كلّفت القضية الفلسطينية والمنطقة العربية الكثير.