خرجت عام 1987 جنازة متواضعة من مخيم شاتيلا لرجل فلسطيني. المشيّعون كانوا مجرد سيدتين، أما الراحل، فمن مواليد يافا عام 1915، واسمه إبراهيم حسن سرحان، السينمائي الفلسطيني الأول
شاتيلا ــ علاء العلي
تصوّر الأفلام الدعائية الإسرائيلية قبل نكبة فلسطين وأثناءها هذه الأخيرة باعتبارها بلاداً واسعة فارغة تقريباً إلا من البدو الرحّل، ثم تصوّر المستوطنين اليهود، البيض، الغربيين، وقد شمّروا عن سواعدهم لكي يستصلحوا هذه الأرض الجميلة والمهملة، الأرض التي وعدهم بها كتاب مقدس. في المقابل، ليس هناك من وثائق فلسطينية أو عربية كثيرة مصوّرة عن فلسطين ما قبل النكبة ووصول الإسرائيليين إليها. أما تلك القليلة، الوثائقية، ذات الأهمية البالغة، فقد عُتّم عليها أو أسيء استخدامها، وأكمل الإهمال على الباقي. وسط كل هذا الإهمال توفي عام 1987 المخرج الفلسطيني الأول إبراهيم سرحان، فبدا أن تشييعه من قبل سيدتين فقط هما ابنته وزوجته، طبيعياً، وخصوصاً أن الوقت كان وقت حرب أهلية شرسة. وسرحان وفد إلى السينما من باب المغامرة والحشرية الفردية، وكأعمال كل الرواد، تكتسب لقطاته وأفلامه التسجيلية أهمية كبرى. ففي فيلمه الأول مشاهد نادرة عن فلسطين. الفيلم ببساطة كان مجرد ريبورتاج مصوّر بتقنية تلك الأيام، بالأسود والأبيض طبعاً، صوّر وقائع زيارة الملك عبد العزيز آل سعود إلى فلسطين عام 1935، بكاميرا اشتراها سرحان حينذاك بـ50 جنيهاً فلسطينياً. لكن مغامرة إبراهيم سرحان كانت قد بدأت قبل ذلك بأعوام. يتحدّث ابنه سرحان، الذي التقته “الأخبار” في المخيم، عن عشق والده للتصوير الفوتوغرافي قبل أن يكتشف السينما. يتذكره ويتذكر كيف روى له أنه قرأ بعض الكتب، ثم اشترى الكاميرا ليسجّل زيارة الملك، وجولته مع الحاج أمين الحسيني بين اللد ويافا، بفيلم مدّته 20 دقيقة. وطيلة السنوات العشر اللاحقة، تابع سرحان تسجيل الكثير من اللقطات التوثيقية، إلى أن جاءت زيارة أحمد حلمي باشا عضو الهيئة العربية العليا، فصوّر سرحان فيلماً عن الزيارة في الساعة الثالثة، ما أثار إعجاب الموفد، فأعطاه مبلغ 300 جنيه فلسطيني. المال جعل سرحان يستطرد في أحلامه، وبواسطة هذا المبلغ تمكّن إبراهيم من افتتاح “استديو فلسطين” في يافا، في العقار المقابل للمستشفى الفرنسي. وهناك، صنع بيديه طاولة بدائية للمونتاج والمافيولا. يخبر ابنه كيف كبرت أحلامه، فحاول أن ينتج فيلماً روائياً بعنوان “عاصفة في بيت”، وبما أنه لم يكن يملك المال الكافي، فقد نشر إعلاناً في جريدة، معلناً افتتاح استديو فلسطين، ورغبة الاستديو في استقبال وجوه للسينما، فحصل على 12 ألف رسالة مساندة، في كل منها مبلغ رمزي، ما مكّنه من جمع 2000 جنيه فلسطيني. وانضم إليه شريك هو الصحافي زهير السقا. لكن خلافات “المنتجين” حالت دون إنهاء الفيلم، ليواصل إبراهيم تصوير الأفلام التسجيلية والدعائية حتى عام 1948. خرج سينمائي فلسطين من بلاده مع النكبة ليتنقّل بين الأردن وبيروت.
ووفقاً لمقابلة أجراها معه المخرج العراقي الراحل قاسم حول، فإن سرحان صوّر فيلماً في الأردن سنة 1958 بعنوان “صراع في جرش”، وهو مسجّل كأول فيلم روائي أردني. وتعدّ هذه المقابلة المنشورة عام 1976 اليتيمة مع إبراهيم سرحان، إذ اعتُمد عليها مقدمة في الكثير من الكتب التي تناولت السينما الفلسطينية. أما إبراهيم، فقد اكتُفي بذكر أنه عاش في مخيم شاتيلا حتى عام 1976، وهو تاريخ نشر المقابلة، فيما يقال إنه مات في مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982. لكنّ ابنه سرحان يؤكد أن هذه المعلومات خاطئة. فقد بقي إبراهيم سرحان حياً حتى عام 1987، وحالت ظروف الحرب الأهلية اللبنانية دون خروج جنازة تليق حتى برجل عادي، فاقتصرت على زوجة سرحان وابنته. يُظهر التعاطي مع هذا الرجل التاريخي عيباً فاضحاً في توثيق التاريخ الفلسطيني. فقد ذهب البعض في غمرة الإحساس بالعجز واليأس من مصير القضية الفلسطينية إلى وصف تجربة سرحان بالسخيفة

لم يمت في مجزرة صبرا وشاتيلا وبقي حياً حتى عام 1987
والساذجة، فيما الشخصيات المماثلة له تُدرّس كجزء من تاريخ البلاد المختلف، من مصر إلى فرنسا الى إلعالم بأسره، إضافةً إلى أن أحداً من المتشدّقين لم يشاهد أفلام الراحل بالكامل، وهي أفلام بغض النظر عن قيمتها الفنية، فإن قيمتها التاريخية والتسجيلية تفوق بمراحل إخوتها في البلدان العربية الأخرى، لا من ناحية المحتوى وما فيها من أسلوب حياة ولباس وعمارة وحسب، بل من ناحية وجود مادّة سينمائية في فلسطين قبل النكبة، دليلاً إضافياً على الكذبة الإسرائيلية الشهيرة: ليس لهم وجود.
ويروي إبراهيم سرحان للعراقي قاسم حول، في المقابلة ذاتها، الطريقة التي اعتمدتها الحركة الصهيونية في صياغة أفلامها الدعائية و«التوثيقية»، إذ عمدت إلى تصوير الأماكن الخالية في البراري، ثم تصوير طفل في إحدى القرى الفقيرة، أو مثلاً كانوا يركزون على تصوير الرعاة وقطعانهم أو بعض الجمال في الأماكن القريبة إلى الصحارى. المهم أن تبدو الأراضي فارغة من الناس، ثم كانوا يصوّرون «الرواد» الشباب، أي المحتلين الأوائل، يقومون، يداً بيد، رجالاً ونساءً، بتشييد مستوطنة في هذه الأراضي الخالية. كل ذلك لاستثارة التعاطف مع هؤلاء «الشجعان»، ولتدعيم الدعاية الصهيونية التي تقوم على فكرة أن فلسطين هي أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، أي يهود العالم. كذلك روى أن الحركة الصهيونية ما قبل النكبة حاولت استغلال إمكانات سرحان الفنية، لكنه رفض التعاون معهم. ويعزو سرحان ذلك إلى الوعي الذي بثّته الحركة الوطنية أيامها. لا يخبر سرحان إبراهيم سرحان كيف عاش والده في شاتيلا. لا يخبرنا إن كان كره التصوير أو لا بعد خروجه من فلسطين. كل ما يقوله إنه كان أباً عظيماً.


مغامرة بدأها
إبراهيم سرحان لتنطفئ مع نكبة فلسطين. ليعاود مصطفى أبوعلي الكرّة من العدم نفسه، وبالهمة نفسها، حيث قال أثناء سينما الفقدان (بيروت 2008) “لما بلشنا كنا نشحد فيلماً ونستعير كاميرا”، مطلقاً العنان لأكثر من ألف فيلم فلسطيني، تحتاج إلى عملية بحث وتوثيق جديّة. فلربما نجد أرشيفاً صحافياً مواكباً للسينما قبل النكبة، على غرار أرشيف مطبوعتي «الكرمل» و“الأخبار”، اللتين وُجد جزء كبير من أرشيفهما في جامعة برلين الحرة، والمكتبة الوطنية في فرساي