كلّما نما الطلب الخارجي تقلّصت فرص المقيمين في تملّك شقةحسن شقراني
بيروت ثاني أغلى مدينة من حيث الإيجارات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وبين 10 مدن عربيّة شملتها دراسة نشرتها أخيراً شركة الاستشارات العقاريّة «Cushman & Wakefield»، تعدّ العاصمة اللبنانيّة الأعلى كلفة بحسب هذا المؤشّر. النتيجة ليست مفاجئة نظراً إلى الفورة العقاريّة التي شهدها لبنان خلال السنوات الأخيرة. فورة جعلته في مصاف 12 بلداً في العالم فقط سجّلت ارتفاعات في أسعار الإيجارات خلال النصف الأوّل من عام 2009.
هذه من تداعيات «عدم تأثّر لبنان بالأزمة الماليّة»، لكن ارتفاع الأسعار في القطاع العقاري عموماً بالنمط الجنوني المسجّل، مرجّح للاستمرار، بدعم من هيكليّة لبنان اقتصاداً ومجتمعاً، ومن النظام السياسي ـــــ الاقتصادي.
تتوقّع الدراسة الأحدث لشركة الأبحاث العقاريّة «Property Wire»، أن يستمرّ ارتفاع أسعار العقارات في لبنان بمعدّل يتراوح بين 10% و15% خلال السنوات الأربع المقبلة. أي إنّ فرص المواطن في تملّك شقّة تتقلّص تدريجاً حتّى الوصول إلى عام 2013... وبعدها لا أحد يعلم.
ووفقاً لللتوقّعات المطروحة، فإنّ شقّة سعرها 120 ألف دولار على سبيل المثال حالياً، سيصبح سعرها في عام 2013، 210 آلاف دولار. أي إنّ نسبة نموّ السعر تبلغ حوالى 75%.
وتشير الدراسة إلى أنّ سبب ارتفاع الأسعار خلال الفترة الأخيرة هو «ملل» المغتربين اللبنانيّين والمستثمرين العرب في القطاع العقاري من التراجعات الكبيرة المسجّلة في هذا القطاع في مدن مثل دبي، وبالتالي فهم يركّزون الآن على مناطق أخرى مثل لبنان.
ويُرجع الخبير الاقتصادي شربل نحّاس ارتفاع الطلب على الشقق والعقارات في لبنان عموماً إلى «ارتفاع عدد المغتربين ارتفاعاً غير عادي خلال السنوات القليلة الماضية». واللافت في نمط هذه الهجرة هو أنّ اللبنانيّين «يتوجّهون أكثر نحو بلدان الخليج، حيث العائدات المرتفعة، بخلاف الأمر في أوروبا والقارّة الأميركيّة».
هذا الأمر رفع الطلب على الشقق في لبنان بمعدّل مطّرد، وأدّى إلى ارتفاع الأسعار/. وبحسب نحّاس «هذا الموضوع مرشّح للاستمرار بطبيعة الحال».
ولكن ما هي تداعيات استمرار هذا الاتجاه الصعودي؟ يقول نحّاس إنّ «الطلب على الشقق والعقارات عموماً من جانب المغتربين والعرب يرفع الأسعار بالنسبة إلى القاطنين في لبنان، نظراً إلى اختلاف مستويات القدرة الشرائيّة». ما يعني مباشرة أنّه كلّما ارتفع طلب المغتربين والخليجيّين على العقارات في لبنان، تقلّصت فرص اللبناني في تملّك شقة.
ولتغطية الهوّة الموجودة التي لا يستطيع تحمّل أكلافها المواطن اللبناني العادي، ترتفع أهميّة القروض المدعومة بالنسبة إلى اللبنانيّين القاطنين. وفي هذا الإطار يوضح نحّاس أنّه «يجري تحفيز القروض ورفع سقفها من وقت إلى آخر لكي يتمكّن القاطنون من من الشراء».
وتقول الدراسة نفسها عن هذا الواقع إنّ «المصرف المركزي يقدّم تحفيزات للمصارف التجاريّة لكي ترفع سقف الإقراض السكني بفوائد تنافسيّة جداً». وهناك مصارف تقدّم قروضاً بفائدة تنخفض دون 5.9% لفترات تتراوح بين 20 عاماً و30 عاماً.
ولكن النتيجة الأساسيّة لاستمرار ارتفاع الأسعار في القطاع العقاري، بحسب نحّاس، «هي تراجع قدرة اللبناني القاطن على امتلاك منزل. فالقروض المدعومة ترفع الأكلاف على الخزينة»، لأنّ الحكومة تدعم القروض عبر تحمّل جزء من كلفتها، «وهذا الأمر لا يمكن الاستمرار به... لا يمكن المضي قدماً بزيادة الضغوط من هذا الجانب على العجز».
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الدعم المذكور كان ممكناً في لبنان خلال عام 2009، بهوامش واسعة، بسبب تداعيات الأزمة الماليّة على منطقة الخليج تحديداً، وتدفّق ما يفوق 16 مليار دولار إلى القطاع المصرفي خلال 12 شهراً، إضافة إلى بلوغ الاحتياطات الأجنبيّة لدى المصرف المركزي مستوى قياسياً تاريخياً.

شقّة سعرها 120 ألف دولار حالياً يصبح سعرها 210 آلاف دولار بعد أربع سنوات
ولكن إلى أي حدّ يمكن أن يستمرّ الدعم؟ يُشار هنا إلى أنّ تمويل احتياجات الحكومة يمثّل ضغوطاً متزايدة على الماليّة العامّة. فبحسب مشروع موازنة عام 2009 (الذي لم يحوّل إلى البرلمان بعد!) يمثّل العجز 10.5% من الناتج المحلّي الإجمالي، فيما نسبة الفائض الأوّلي (المسجّل قبل خدمة الفوائد) إلى الناتج لا تتجاوز 2.4%.
ومن المرجّح دائماً أن تعلق الحكومة في دوّامة تمويل العجز وصعوبة الحصول على أموال لتغطية عجزها. ومن هذا المنطلق تبدو قدرة الحكومة على تغطية الخلل جزئياً في القطاع العقاري متّجهة أكثر صوب الانحسار.
وهنا تبرز معضلة حقيقيّة تطلقها آليّات السوق التقليديّة غير المقنّنة. فالمغتربون والأجانب يرفعون أسعار العقارات بطلبهم الثابت، وعندما ينحسر الدعم الحكومي لن يكون باستطاعة المواطنين المحدودي الدخل تحمّل كلفة أسعار الشقق المستهدفة. وفي مرحلة ما، حتّى لو كان الدعم الحكومي لا يزال موجوداً، سيغطّي الارتفاع الهائل في الأسعار على أيّ تحفيز محتمل.
تجدر الإشارة إلى أنّ دراسة «Property Wire» تفيد بأنّ معظم الشقق السكنيّة التي تُباع في منطقتي بيروت وجبل لبنان هي صغيرة إلى متوسّطة الحجم. وهذا الواقع يُسجّل فيما ارتفاع الأسعار ينتج من آليّة «طبيعيّة» بحسب الدراسة، بحكم أنّ مساحة البلاد هي صغيرة مقارنة بحجم سكّانها.
غير أنّ مسألة الحجم/ عدد السكان لا تبرّر موضوعياً ارتفاع الأسعار إلى المستويات القياسيّة، لأنّ التدخّل الحكومي في الحالات المشابهة لهذه الحالة يكون عبر تقنين القطاع واحتواء فقاعته، لا عبر تغذية تلك الفقاعة من خلال إجراءات تعالج النتيجة لا الأسباب. والقروض الـ«سوبر ـــــ مدعومة» هي جزء من الآليّة الهجينة التي تعتمد على استمرار الدوران في حلقة التمويل والإقراض من دون الانتقال إلى مستويات أرفع. التقدّم للأسف ليس حلزونياً إيجابياً.
من يستطع شراء شقّة فليهرع إلى فعل ذلك قبل ارتفاع الأسعار أكثر. ولكن هل ينتظر موجة نزوليّة مفاجئة للأسعار؟ أم يهاجر في وقت لاحق إلى الخليج ويعود لشراء شقّة؟


4.3 مليارات دولار

قيمة عمليّات انتقال الملكيّة، أو المعاملات العقاريّة المسجّلة، خلال عام 2008، وفقاً لأرقام نقابة المهندسين التي تنقلها الدراسة. ويُتوقّع ارتفاع هذا الرقم أيضاً خلال العام الجاري إذ ارتفعت الأسعار خلال الأشهر التسعة الأولى فقط بنسبة 9%


عوامل مشجّعة... محبطة في آن