عبد الحليم فضل الله ثمة آمال متزايدة ببقاء الاقتصاد اللبناني داخل دائرة النمو القوي، فهو تخطى عتبة الأزمة العالمية وعتبات التوتر الداخلي محققاً نتائج لافتة. وإذا صحت التوقعات، فإن الناتج المحلي سيبلغ في نهاية العام المقبل 130% قياساً على ما كان عليه قبل ثلاثة أعوام، أي إنه سيحقق في فترة قصيرة ما أخفق في تحقيقه خلال عقد كامل من الزمن أو أكثر. وإذا تمكن لبنان من إدامة هذا النحو من النمو فسيمضي قدماً داخل مجموعة الدول المتوسطة الدخل، وسيتمكن من استيعاب كتلة الدين دون أن يضطر إلى اتخاذ تدابير مؤلمة.
بالمقابل، هناك من يشكك في صحة هذه التقديرات المتفائلة، وهو أمر مبرر في بلد لا يعتني كثيراً بإحصاءاته، ويعتمد الغموض سبيلاً إلى منع ناقدي السياسات المتبعة من بناء حججهم. التقارير الاقتصادية الدولية مليئة بالفراغات الدالة على نقص كبير في المعلومات عن لبنان، أمّا البيانات المتوافرة فتفتقر في كثير من الأحيان إلى الدقة، كما هي حال التقديرات الرسمية للتضخم عن الفترة السابقة (وهو مقياس قليل التعقيد) التي تعادل نصف التقديرات الصادرة عن مؤسسات خاصة ذات مصداقية. وإذا ظهر الآن أن التضخم مقدر بأقل من مستواه الفعلي فستنخفض معدلات النمو الحقيقي انخفاضاً دراماتيكياً. وهناك تساؤلات أخرى تتعلق بطريقة تصنيف الأموال الوافدة من الخارج بين تدفقات تدخل في تركيبة الدخل الوطني (مثل التحويلات المنتظمة من جانب واحد)، وأخرى لا يمكن إدراجها فيه (مثل التحويلات، والمعونات الموسمية غير المرتبطة بأداء اقتصادي محدد).
من غير المفيد مع ذلك الانشغال بتفنيد الأرقام وتصحيحها، بل ينبغي صرف انتباه أكبر لمآل النمو ونتائجه وآثاره. والسؤال الهام في هذا المجال هو لماذا تزامن النمو القوي مع تراجع أكيد في المتغيرات الموازية مثل: الفقر والبطالة، والتنمية البشرية.
تكمن المفارقة في إصرار واضعي السياسات على أن مبدأ «النمو أولاً» هو الوسيلة المثلى والوحيدة لجلب الرفاه والوفرة وتخفيف عبء الحرمان، بينما أظهرت التجارب أن الانفتاح الاقتصادي غير قادر وحده على إرساء نظام اجتماعي واقتصادي متوازن ومستقر، وترسيخ أسس المواطنة المتساوية. شجع هذا الاستنتاج المنظمات التابعة للأمم المتحدة على المجاهرة بآراء مخالفة لمبادئ إجماع واشنطن الذي ترعاه وزارة الخزانة الأميركية، فتضمنت تقاريرها دعوات جريئة للانتقال من نهج النمو كرافعة للتنمية إلى نهج النمو العادل والمنصف. ويورد مسح التطورات الاقتصادية والاجتماعية لمنطقة الإسكوا لعام 2007ــــ2008 أمثلة عدة على إخفاق «الليبرالية الجديدة» على الصعيد الاجتماعي، فمصر شهدت ارتفاعاً كبيراً في معدلات العاطلين من العمل وتزايداً في أعداد الفقراء منذ سارت في طريق التحرير الاقتصادي، فيما اتسعت الفجوات الاقتصادية في الأردن بين الأغنياء الذين تزداد حصتهم من الدخل والفقراء الذين يتراجع نصيبهم منه.
وتقدم الأمم المتحدة في التقرير نفسه، مقاربة ثورية لـ«النمو المنصف»، وذلك في إطار مفهوم مبتكر (بالنسبة للأدبيات الرسمية العالمية) هو التنمية المرتكزة على الحقوق. ويعد ذلك قفزة في الاتجاه المعاكس للسياسات التقليدية السائدة، وتطويراً للسياق الفكري الذي بدأ مع «أمارتيا سن»، رائد مبدأ التنمية البشرية. وهو أيضاً محاولة لافتة للربط بين المسارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للتنمية.
لا تهتم هذه المقاربة بمعدلات النمو، بقدر اهتمامها بالمساهمة التي يقدمها في تحقيق العدالة وتعميم الرفاهية، وبمدى نجاحه في إيجاد مناخ مؤات لترسيخ الحقوق المدنية والاقتصادية/الاجتماعية وللتمتع بالحريات الأساسية، (التي لا طائل من وجودها في ظل العوز والمرض والجوع). فالحق بالتنمية «هو حق غير قابل للتصرف» وهو نفسه الحق في ممارسة السيادة الكاملة على الموارد الطبيعية والمشاركة الشعبية في استثمارها، والحصول على فرص عيش متكافئة.

الكف عن تمجيد النمو، والانضمام إلى تيار التنمية المنصفة
نقطة الخلاف الرئيسية بين نهج التنمية المرتكزة على الحقوق ونهج النمو أولاً، تتمثل في عدم اعتراف هذا الأخير بمحدودية أثر النمو الصرف على المعركة ضد الفقر، كما أنه لا يقيم اعتباراً لضعف الارتباط بين النمو وإعادة توزيع المداخيل والثروات، وليس لديه الخيال الكافي للنظر إلى المسألة الاجتماعية على أنها مسألة سياسية أكثر منها اقتصادية.
إن تضييق الفوارق الاجتماعية وإيجاد بيئة مؤاتية لنيل الأفراد حقوقهم الأساسية، يستدعيان أولاً اعتماد سياسات نمو محابية للفقراء، تحظى فيها قضايا البطالة والتهميش بالأولوية المناسبة، ويتطلب ثانياً سياسات اجتماعية قائمة على التدخل بغرض التأثير مباشرة، لا بصورة غير مباشرة، على عملية إعادة التوزيع، فالمبدأ الرئيسي لنهج التنمية هو السعي إلى تحقيق ثلاث غايات متوازية في الأهمية، ينبغي أن تتحقق في الوقت نفسه، هي العدالة والاستقرار والنمو.
لبنان الذي انحاز دون تحفظ لمبدأ النمو وكان متوقعاً له تسجيل نجاحات معتد بها على هذا الصعيد، أخفق في الوصول إلى أي من تلك الغايات، فمعدل النمو لم يتجاوز في عقدين نصف المعدلات التي سجلتها المنطقة، والاستقرار لم يتحقق أيضا حتى في أسواق الصرف التي شهدت هزّات غير منظورة تبعاً لتقلبات الدولار وللقابلية الاستثنائية على استيراد التضخم ومضاعفة معدلاته، وعانى البلد كذلك من اتساع الفوارق الاجتماعية وزيادة أعداد الرازحين تحت خط الفقر الأعلى.
ألا يدعو ذلك إلى الكف عن تمجيد النمو، والانضمام إلى تيار التنمية المنصفة، فهذا يعفينا من مغبة المفاضلة المستحيلة بين المساواة والتنمية، التي أفضت إلى التفريط بالعدالة دون أن تنجح في تحقيق الوفرة.
* رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق