منذ 3 سنوات وأنشطة ديوان المحاسبة، باستثناء المراقبة المسبقة، «مشلولة» وفقاً لدراسة أجرتها الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية «لا فساد» بعنوان «نظام النزاهة الوطني»، ويضاف إلى ذلك معاناة الديوان من تركيبة «هجينة» تخضعه لرئاسة الحكومة التي يراقب أعمالها!
محمد وهبة
يعاني ديوان المحاسبة، ككل الإدارات الرسمية في لبنان، من التمدّد السياسي والطائفي ومن «عقدة الدور»، إذ يُطلب منه مراقبة الجهاز التنفيذي للدولة، فيما يخضع سياسياً لهذه السلطة، وهذا ما أدى إلى شبه إقفال منذ ثلاث سنوات، فاقتصرت الرقابة الفعلية على «الرقابة المسبقة»، فيما الموت البطيء يتسلّل إلى مجمل إدارة الديوان.
هذا الوضع كان أحد محاور دراسة «نظام النزاهة الوطني» التي أنجزتها الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية «لا فساد»، بتمويل من «USAID» التابعة للحكومة الأميركية، فقد تطرّقت الدراسة إلى الديوان في فصل كامل، وأشارت إلى ازدواجية مراقبة الأموال العامة مع وزارة المال، وعدم استقلاليته المالية والإدارية.

مراقبة المرؤوس!

إلا أن قضاة في الديوان شرحوا حقيقة الوضع لـ«الأخبار»، فأوضحوا أن المشكلة الرئيسية تكمن في أن الديوان يضطلع بمهمة رئيسية تتمثّل في مراقبة إدارات الدولة التنفيذية، والبلديات والمؤسسات العامة والمستقلة، إلا أن «كل عمله يخضع لرئاسة الحكومة، فلا يمكنه أن يعرض أي موضوع على مجلس الوزراء مهما كان حجمه وأهميته إلا عبر رئاسة مجلس الوزراء التي بإمكانها أن تختار وتقرر ماذا ومتى يعرض على مجلس الوزراء من تقارير يعدّها الديوان... وهذا الأمر ينسحب على كل الأمور الإدارية وغيرها في الديوان، وصولاً إلى أبسط الأمور مثل سفر رئيس الديوان».
وبالتالي، يشير بعض القضاة، إلى أن الديوان بات يعامل كأنه جزء من محميّة سياسيّة تسيطر عليها رئاسة الحكومة مثل مؤسسات عدّة في لبنان (إيدال، مجلس الإنماء والإعمار والهيئة العليا للإغاثة...)، فهو في الواقع مسيطر عليه إدارياً من قبل رئاسة الحكومة التي تقرر من يعيّن رئيساً ومن يكلّف ببعض المهام وتوظيف مستخدميه... ففي فرنسا، لا يُربط ديوان المحاسبة بأي جهاز تنفيذي، وهو مستقلّ كلّياً، أما في بعض الدول فهو مربوط بمجلس النواب من أجل المساعدة على المساءلة والمحاسبة التي يقوم بها هؤلاء على الجهاز التنفيذي، أي الحكومة وإداراتها.
وأبعد من ذلك، فإن الاستجابة التي تلحق بتقارير الديوان لها أهمية كبرى في غير دول. ويروي أحد القضاة أن التقرير السنوي لديوان المحاسبة الفرنسي يعطى له كامل الأهمية من قبل مجلس النواب والهيئات الأخرى، حتى إنه يكون مساعداً في تكوين رأي عام ضد الفساد، إذ ليست وظيفة أي تقرير أن يطلب من الحكومة التصحيح مباشرة، بل يشير إلى وجود الخطأ الذي يستوجب المعالجة، «لكن في لبنان لا يستجيبون لمضامين التقرير إلا بما يتقاطع مع مصلحة السياسيين، وهؤلاء قد ينتظرون مرور سنة أو أكثر ليثيروا موضوعاً ما كان قد ذكره الديوان في تقرير له، مشيراً إلى وجود خطأ يستوجب المعالجة، بهدف شن هجوم على الفريق المقابل».

تمويل غير كافٍ

وتقول الدراسة إن «الموارد المالية المخصصة لديوان المحاسبة لا تكفيه ليضطلع بمهمته الرئيسية، على الرغم من أن الديوان مسؤول عن مراقبة 78 مديرية عامة في 21 وزارة، و52 بلدية كبرى، و63 مؤسسة عامة ومكاتب مستقلة ذاتياً، فهو «يفتقر إلى المدققين والميزانية التي تسمح له بتأدية واجباته كما يجب»، علماً بأن الجزء الرئيسي من موازنة الديوان يخصّص للأجور، لا لاستخدام موظفين جدد أو للقيام بمشاريع أو تمويل المعلوماتية أو مراقبة عمليات ماليّة لهذه المؤسسات والإدارات، وأي زيادة في قيمة اعتماداته تخضع لموافقة رئاسة الحكومة.
وتعتقد الدراسة أن هناك ازدواجية في الرقابة المالية بين الديوان ووزارة المال، فالأخيرة «مسؤولة عن ممارسة الرقابة المالية على مصاريف موظفي الدولة خلال عملية تنفيذ الموازنة»، كما يفترض أن يكون للديوان دور في المساءلة العامة، أي أن يساعد مجلس النواب في تحسين الرقابة التشريعية على الأموال العامة. لكن، بسبب عدم تقديم الديوان بيان المطابقة الخاص بالموازنة العامة والتقارير السنوية التي لم تُنشر منذ عام 2006، لم يستفد مجلس النواب من هذه المساعدة، «وإذا نُشرت لا يناقشها النواب إلا نادراً».

للإعداد فقط!

والمعروف أن الديوان يرفع كل عام 3 أنواع من التقارير المختلفة عن مراقبته، ففي التقرير السنوي يضمّ نتائج الرقابة التي قام بها، مع اقتراحات بتعديل القوانين والأنظمة ذات الوقع

المفارقة أن الديوان يراقب أعمال السلطة التنفيذية ويخضع لها في الوقت نفسه
والأثر الماليين، وذلك بعد موافقة الجمعية العامة لديوان المحاسبة على هذا التقرير. وقد أعدّت التقارير العائدة لأعوام 2006، 2007 و2008، إلا أنها لا ترفع إلى الهيئات ذات الصلة. وعند الاقتضاء، يعدّ الديوان تقارير خاصة بشأن قضايا معينة يرفعها إلى رئيس الجمهورية، مجلس النواب، مجلس الوزراء، أو إلى الإدارات والوكالات العامة المعنية، كما يُصدر بيانات المطابقة سنوياً عن كل حساب خضع لرقابته، مدعوماً بأدلة موثقة. غير أن «ما يحدّ من فاعلية الديوان في لبنان، هو أن اللجان المسؤولة في السلطة التشريعية تهمل هذه التقارير، فلا تناقشها ولا تعرض تفسيراتها».
داخلياً، لم يسجل الديوان أي محاسبة لقضاته أو لموظفيه بتهمة فساد، وتعتقد الدراسة أن الأمر يعود إلى عدم «وجود قانون لحماية كاشفي الفساد»، وإذا كشف وجود فساد ما «فلا يتم كشف أسماء أو عدد القضاة الذين أحيلوا إلى التفتيش القضائي، ويشكل ذلك سبباً أساسياً لطرح قانون حول حق الوصول إلى المعلومات»، ويكشف القضاة وجود تدخلات سياسية معهم لتسهيل هذا الأمر أو تبديل الرأي في آخر... غير أنهم يشيرون إلى أنهم خاضعون لمراقبة التفتيش القضائي، أما الموظفون فهم خاضعون لمراقبة التفتيش المركزي... لكن الدراسة تشير إلى أن تعيين رئيس الديوان يعدّ جزءاً من المحاصصة الطائفية للزعماء السياسيين «وهو محفوظ لإحدى الطوائف الثلاث الرئيسية، ويتطلب تعيينه التوصل إلى توافق بينهم». وقد شلّ عمل الديوان في الفترة الأخيرة بسبب عدم وجود رئيس أصيل له، واستقال بعض رؤساء الغرف ولم يعيّن أحد مكانهم.