«خطّ فاصل ومفترق توقّفت عنده مسارات وتسارعت أخرى وغيّر بعضها اتجاه تطوّرها»محمد بدير
كلما حاولت إسرائيل إبعاد «حرب لبنان الثانية» عن ذاكرتها الجماعية، عادت الأخيرة لتسجل حضوراً في غير مناسبة وتحت عناوين مختلفة. آخر إطلالات هذه الحرب كان من على منبر معهد أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، الذي خصص ندوة أكاديمية للبحث في آثارها بعد نحو ثلاثة أعوام على انتهائها. شخصيات عسكرية وأخرى أكاديمية تناوبت على الكلام خلال الندوة التي اختار المعهد الأبرز في إسرائيل أن تكون خلاصتها محور العدد الثاني من مجلة «الجيش والاستراتيجية» الفصليّة الصادرة عنه. بعض هذه الشخصيات كان ممن شارك في صناعة قرارات الحرب وتوجيه مساراتها، كقائد الأركان السابق دان حالوتس، ونائبه موشيه كابلنسكي، وبعضهم الآخر من أصحاب الصيت الذائع في الأبحاث الاستراتيجية كرئيس المعهد، عوديد عيران، وأمير كوليك، من كبار الباحثين فيه.
وإن تباين المتحدثون في قراءة تداعيات الحرب على غير مستوى، فإنهم أجمعوا على حقيقة واحدة هي أنها تمثل «خطاً فاصلاً ومفترقاً توقفت عنده مسارات، وتسارعت أخرى، وغيّر بعضها اتجاه تطوّرها تغييراً جوهرياً».
فالحرب، بحسب التقديم للندوة، «قدمت للجمهور الإسرائيلي صورة واضحة عن تهديد تغيّر بصورة حادة، وكشفت عن خطر النيران القوسية بكامل زخمها.. معيدةً إسرائيل إلى عهد الحروب التي كانت فيها الجبهة الداخلية هدفاً مشروعاً ورئيسياً في نظر الأعداء. وهذا التغيير هو تغيير استراتيجي، عملاني وتكتيكي، ذو تداعيات واسعة».
واستناداً إلى هذه التداعيات، توافق المشاركون على أن الحروب المقبلة تتطلب إعداداً يأخذ بالاعتبار العبر التي تمخضت عنها حرب لبنان على المستويات كلها. وتحدث الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، غيورا آيلند، عن العبر على المستوى الاستراتيجي. وأشار إلى أن أهمها الفجوة المتنامية بين التوقعات، لدى القيادة السياسية والإعلام والجمهور، وبين القدرة التي يمتلكها جيش الاحتلال على تحقيق هذه التوقعات في ثلاثة مجالات: أمد الحرب، وعدد الإصابات، وماهيّة الانتصار. من جهته، قدم كابلنسكي عرضاً مفصلاً لوضع الجيش في السنوات التي سبقت عدوان تموز، لجهة استغراقه في محاربة «الإرهاب الفلسطيني» من جهة، وتقلص موارده وموازناته من جهة أخرى. ودعا إلى دراسة أداء الجيش في «حرب لبنان الثانية» في ضوء تأثير هذين العاملين اللذين تركا آثاراً جذرية على مستوى استعداد الوحدات القتالية وأهليتها. فالاقتطاع في الموازانات، على سبيل المثال، «أدى إلى إعطاء الأولوية في توجيه الموارد للساحات الساخنة (المناطق الفلسطينية) على حساب ساحات أخرى، من ضمنها الجبهة الشمالية». وإذ أقر كابلنسكي بعدد من الأخطاء التي ارتكبتها قيادة الجيش في الحرب، أبرزها «أننا لم ننجح في إيضاح، وربما لم نفهم، أن المواجهة مع حزب الله هي حرب، وليست استمراراً للأنشطة الجارية التي مارسناها خلال الأعوام الستة في الضفة الغربية»، رأى أن «أحد أفضل الأشياء في هذه الحرب هو أنها مثّلت نداءً موقظاً للجيش والدول ككل».
وتناول عوديد عيران، السياق السياسي الذي أدى إلى إنتاج القرار الدولي 1701 في نهاية الحرب، عارضاً الارتباك الإسرائيلي الداخلي الذي رافق التطورات الدولية الخارجية على هذا الصعيد. وخلص رئيس المعهد إلى الإضاءة على «انعدام الجهوزية والتفكير اللذين واكبا ليس فقط الجانب العسكري للحرب، بل أيضاً السياسي». أما رئيس مركز موشيه ديان للأبحاث الشرق

حالوتس يدعو إلى إعادة تعريف مصطلحَي «الانتصار» و«الحسم» وخصوصاً في مواجهة أعداء غير دولتيين

أوسطية، أيال زيسر، فقد عرض نتائج الحرب من زاوية حزب الله، مقدماً مطالعة عن التفاعلات التي أثارتها على صعيد الداخل اللبناني، ابتداءً بالأزمة الحكومية التي أعقبت العدوان، وصولاً إلى «خسارة» الحزب في الانتخابات النيابية الأخيرة.
وإذ عدّ الأزمة الداخلية اللبنانية ضمن الأثمان التي دفعها الحزب جراء الحرب، إضافة إلى «ارتفاع الحصانة التي كنا نعزوها (إلى الأمين العام لحزب الله السيد) حسن نصر الله»، أحصى جملة من الإنجازات التي سجلها الحزب في رصيده بفعل الحرب، منها: تمكّنه من مواصلة إطلاق النار طوال فترة القتال، ونجاحه في المواجهات البرية، واستمرار وسائل إعلامه في البثّ خلال الحرب، وتعاظم قوته وقدراته قياساً إلى ما قبل الحرب.
من جهته، جهد دان حالوتس في كلمته لتكريس ما يراه إنجازات الحرب التي قاد خلالها الجيش. وشدد الجنرال في الاحتياط على الهدوء الذي يلف الحدود الشمالية لإسرائيل مع لبنان، والذي «لم نعرف مثله من السبعينيات»، للاستدلال على الردع الذي حققته الحرب في مواجهة حزب الله.
ورداً على من يقول إن الهدوء في الشمال مقترن بالتفجر، قال حالوتس «إن التفجر هو نوع من التقدير، وفضلاً عن ذلك، فإن الشرق الأوسط كله متفجر»، مقرّاً في الوقت نفسه بـ«أخطاء ونقاط ضعف وإخفاقات» حصلت في الحرب. ورغم ذلك، لفت حالوتس إلى أن «التوقعات بعملية صاعقة على شاكلة حرب الأيام الستة كانت من صنع آخرين، لا من صنع الجيش». ودعا حالوتس ختاماً إلى إعادة النظر في تعريف مصطلحي «الانتصار» و«الحسم»، وخصوصاً في مواجهة أعداء غير دولتيين.