إيمان بشيرعندما سكنت مع عائلة أمي في مخيم القاسمية، كان لدينا تقليد عائلي لا يختلف عن جميع العائلات، وهو الجلوس سوياً لمشاهدة التلفزيون. ما زلت أذكر ستي «أُم ناصر» حين كانت تشير إلى كل مشهد طبيعي جميل يظهر على الشاشة بأنه فلسطين، وكنت في كل مرة أقول «ستي هاي مش فلسطين هاي تركيا!». فتبدأ ستي بشتمي بأجمل الشتائم الموجودة في جميع القواميس العربية لتقول في النهاية «لأ هاي فلسطين يا بنت، شو رح تعرفي البلاد أكتر مني؟».
للإيضاح فقط، ستي لم تعانِ يوماً من الخرف ولا فقدان الذاكرة، بل هي تتذكر أدق التفاصيل في القرية التي كانت تعيش فيها في فلسطين. وعلى الرغم من أنها تملك العديد من الأحفاد، فإنها تتذكرنا جميعاً بأسمائنا واختصاصاتنا الجامعية ومكان إقامتنا وعملنا، حتى بالنسبة لأحفادها الذين هاجروا لبنان منذ أكثر من عشرين سنة. كما أنها لا تزال تعيش وحدها، تستيقظ يومياً عند صلاة الفجر لتصلي، تشطف الدار، ثم تستمتع باستقبال النسوان على إبريق الشاي الصباحي حوالى الساعة السابعة. في أحد الأيام، مرضت ستي كثيراً، الأمر الذي دفع أمي إلى إحضارها إلى الضيعة التي نعيش فيها كي يتاح لنا جميعاً الاعتناء بها. لكن ستي ظلت تئن على مدى ثلاثة أيام وهي تقول «بطلعش من المخيم إلا على فلسطين، خودوني عالقاسمية». كان ذلك منذ أكثر من ست سنوات، ولا أكذب عندما أقول إن ستي تحسّنت عندما عادت إلى المخيم وقتها! أنا أحب ستي كثيراً، وكنت أشعر بالحزن كلما مرضت لأنها تأبى الدخول إلى المستشفى، أو بالأحرى، هي تأبى الخروج من مخيم القاسمية.
مع كثرة المسلسلات التركية، رُحت أفكر إذا كانت ستي لا تزال تعتقد أن تركيا هي فلسطين، وخاصة أن ستي تُتابع جميع المسلسلات على التلفزيون حتى المكسيكية منها (يوم ما كانت بعدها دارجة). وقبل أن نذهب في أحد الأيام إلى المخيم سألت أُمي «ماما، على عِلمك ستي بتحضر (نور ومهند)؟»، فاستغربت أمي للسؤال، وخاصة أنني أكره المسلسلات التركية. فمازحتها بالقول «ماما، أنا خايفة ستي تشوف هيك شوفات وتفّكر أنو اليهود خربوا مخ الفلسطينية!»، فانهالت عليّ بالشتائم "شو مفكّرة ستك ما بتعرف تميّز؟». وعندما ذهبنا إلى المخيم، سألت ستي ونحن نشاهد المسلسل المذكور «هاي فلسطين يا ستي؟»، فأجابتني بسخرية «إسمع عاد قال حملوا شهادات! ولي هاي تركيا يا فالحة (ذكية)!».
حينها تداركت الموضوع، فلسطين هي الجمال بالنسبة لستي، هي الأشجار التي كان يعتني بها جدي قبل اللجوء وحمل السلاح حتى الاستشهاد. والمخيم هو مصغّر لفلسطين، وفي النهاية، ستي لا تتحمّل اللجوء مرتين.