حيفا
تعلم يا صديقي أني بدأت دراستي الجامعية في حيفا، في ما يسمى «المعهد التكنولوجي لإسرائيل» ـــــ التخنيون، وهو من أهم معاهد الهندسة في العالم، وقد تأسس قبل قيام الكيان الصهيوني، وأحد مؤسسيه هو ألبرت آينشتاين! هناك مارست حبي المجنون للغات البرمجة، بدون رقيب، من قمة جبل الكرمل، مطلةً على ذلك المنظر الرائع، وحدي، كل مساء أرى حيفا بتلك الإطلالة الساحرة، وأذكر مدينتي التي تركتها خلفي. أتستحق حيفا أن أترك «طمرة» الصامدة منذ الأزل؟ حيفا التي أحبها غسان كنفاني، حيفا التي لم تعد عربية تماماً وتُعَدّ رمزاً «للتعايش»؟ أعلم أن العديد يتساءلون كيف يمكننا أن نشارك الصهاينة مقاعد الدراسة (في مثال بسيط على ما نشاركهم فيه في هذا الكيان)، كأن لا ثأر بيننا، كأن دماءنا لا تغطي أياديهم. صدقوني، أسال نفسي هذا السؤال يومياً، كلما جلست بجانب «زميل» منهم. أستغرب أكثر عندما يساعدني أحدهم في نقل ما يكتبه بسبب ضعف النظر الذي يرافقني منذ الصغر، أو عندما تدعوني فتاة كانت تتحدث قبل الدرس عن «الانضباط في الجيش»، للدخول إلى الصف حتى لا تفوتني كلمة مما سيتحدث فيه المحاضر باهتمام غريب بمصلحتي!
ثم أسأل: إن كان بيد أحدهم بندقية، فهل كان سيوجهها نحوي؟ أعرف الإجابة، ولا أتغاضى عنها. هناك اليوم الذي نعيشه والغد الذي نطمح إليه، وما بينهما علينا التعايش مع واقع. صدقيني، أسهل منه لو كنت مضطرة للحصول على تصريح للتنقل بين غرفتي والمرحاض. وهو تعايش أضاع العديد منا في تعقيداته، حيث لم يعودوا يستطيعون التمييز بين التعايش مع واقع والتعايش مع العدو! ويظل يلوح في الأفق ذلك الأمل أن هذا الكابوس سينتهي ذات يوم، ولن نضطر إلى أن نصافح من تلطخت يداه بدمنا، وإن كان لمصلحة، لا غير!
وما بين كل هذا، تظل حيفا صورة لهذا الحلم، بكرملها وبحرها، ثابتة، تطير في الأفق كحمامة تفرد جناحيها، منتظرة عودة العائدين، وأظل أنا وحدي كل مساء أرى تلك الإطلالة الساحرة من بين كل من يسكنها!
الجليل ــــ أنهار حجازي

■ ■ ■

«فلستيني»

عزيزتي أنهار، لو تدرين كم يذكرني ما كتبته بحالي في أيام دراستي. ها أنا أقرأ وأسترجع ثلاث سنوات قضيتها في الجامعة اليسوعية في بيروت، وهي من الجامعات القديمة والعريقة والمهمة من حيث مستواها التعليمي والأكاديمي. وبالتالي، يعتبر كل من يرتادها محظوظاً، لأن فرص التوظيف تفرش أمامه كالسجاد الأحمر لمجرد ورود اسم هذه الجامعة في سيرته الذاتية. غير أن ذلك ليس كل ما يرد إلى الأذهان لدى سماع اسم هذه الجامعة. تعتبر «اليسوعية»، بغض النظر عن نشأتها على يد الرهبان اليسوعيين الفرنسيين في لبنان، جامعة تسيطر فيها الأحزاب اليمينية المسيحية المعروفة بمعاداتها على نحو أو آخر للفلسطينيين منذ ما قبل الحرب الأهلية وأخطائها ومجازرها. وهكذا، يبرز الوضع الغريب والصعب لأي فلسطيني قد يرتاد هذه الجامعة رغم ندرة هذا الأمر.. ولأني كنت هذا الفلسطيني بدأت دراستي عازماً على ألا يؤثر الجو العام للجامعة على رغبتي في التعلم رغم الضغط النفسي الذي كنت قد بدأت أشعر به. ففي هذه الجامعة من يعتقد أن الفلسطينيين هم أساس مشكلة لبنان وجوهرها. وآخر يظن أن الفلسطينيين هم زمرة مسلحين خارجين عن القانون لا يفقهون شيئاً عن العلم والحضارة والثقافة. حاولت جاهداً التغاضي عن كل هذا، لكن عندما بدأت عملية التعارف في الأسبوع الأول بدأت تظهر ما تضمره الأيام المقبلة. تجدر الإشارة إلى أنني قد قررت عدم إشهار كوني فلسطينياً، حفاظاً على سلامتي المعنوية والشخصية وتجنباً لأي مضايقات قد أتعرض لها. فأنا في هذه الجامعة لأتعلم ثم أقوم بما أريد بهذه الشهادة المهمة. تجدر الإشارة إلى أنني لا أحمل أي أوراق ثبوتية تثبت أني فلسطيني. وطبعاً ضمن الأحاديث «الشيقة» التي تتناقلها الفتيات عن المشاهير تسمعين جملة: «ليكو كيف نحنا قاعدين وغراضنا مكركبة متل المهجرين الفلستينيي!!!» (الفلسطيني في لبنان هو فلستيني) ويتلو ذلك قهقهة جماعية. وغير ذلك من التعليقات الشبيهة شبه اليومية.
مرت السنوات، وأتت أحداث مخيم نهر البارد في الشمال لتزيد من حدّة هذه التعليقات، وأظهرت بوضوح طابعها العنصري. وأذكر هنا كيف أن الفتاة التي كانت تبتسم لي وتحاول لفت انتباهي (كوني الشاب الوحيد في الصف) تقول: «لا أفهم لماذا تدافع عن الفلسطينيين!»، بعد تعليقي الحاد والغاضب على ما قالته عن وجوب قصف المخيم بمن فيه من سكان للقضاء على منظمة فتح الإسلام. ولكن، يا أنهار، رغم تشابه بعض الظروف المحيطة بسنوات دراستنا الجامعية، فأنا لا أحسدك على الوضع الذي تعيشين فيه رغم أنك على أرض الوطن. ولكن الأهم من كل ذلك هو أن نتعلم ونبني أنفسنا لنشق طريقنا في الحياة ونواجه العدو ولو بأدواته.
بيروت ــــ خالد الزهر