وحدها ابتسامات الشهداء والمعتقلين من الشباب والأطفال في صورهم تعطينا بعض التفاؤل. يقابلها قهر كبير من مشاهد الإذلال والإعدامات الميدانية. لكن ربط بعض التفاؤل بتاريخ طويل للفلسطينيين وتجارب سابقة يبعث شعوراً قاسياً بالإحباط. قليل من التدقيق في جملة النتائج لعشرات التحركات التي خاضها الفلسطينيون منذ الثورة الكبرى التي أعقبت استشهاد الشيخ عز الدين القسام عام 1936 كفيل بذلك. الحديث هنا ليس عن القناعة بأي خط: المقاومة الشعبية أو المسلحة.
صاحب السطور يرى أن ثمة «طابو» لا يقبل النقاش حول فعالية المقاومة بكل صورها في انتزاع الحقوق. لكن السؤال هو عن توظيف هذه المقاومة بالطريقة التي يبذل فيها ثمن بشرى ومادي عظيم دون نتائج، بل بخسارة مقدرات وحقوق سابقة.
بالموضوعية المتجردة من الشعارات: ماذا حقق الكفاح الشعبي والمسلح منذ أكثر من 65 عاماً؟ «منظمة التحرير» التي وصف الشهيد صلاح خلف برنامجها الوطني بجملته الأثيرة «اللي بيقول مفاوضات بدون سلاح بيكون حمار»، ثم النفق الذي سار فيه ياسر عرفات، وقد استُشهد محاولاً التمرد على خطوطه الحمر، حينما أدرك أنه خرج من «أوسلو» صفر اليدين. ألم تسر إسرائيل بالفلسطينيين، الذين مثلتهم المنظمة، إلى حيث شاءت؟ ثم ها هي تطلب كل شيء من الرجل الذي لم يهددهم يوماً بشيء؛ ما هو قدر التنازل المطلوب أكثر مما قدمه محمود عباس؟
المنظمة خاضت مواجهة ممتدة مع الجيش الإسرائيلي. وفي اجتياح لبنان (1982) خاضت إسرائيل ضدها حرباً قاسية هدفها تماهى مع القوات الأردنية (أيلول الأسود) التي خاضت أكثر من 600 مواجهة مع مجموعات المنظمة، قبل أن تقضي على وجودها من الأردن عام 1969. الهدف الإسرائيلي كان نسف اتفاق القاهرة الذي أعطى الشرعية لوجود قوات المنظمة في لبنان، فضلاً عن مساحة الحرية في ممارسة المقاومة المسلحة من الأراضي اللبنانية، ثم تشتيت المنظمة وإجبارها مرغمة على ترك السلاح.
عسكرياً، خاض فدائيو المنظمة قتالاً عنيفاً. تشير شهادات الجنود الإسرائيليين إلى أن عدد القتلى بلغ 600، لكن في حسابات الربح والخسارة كان الإسرائيلي ينتصر بخروج قوات المنظمة من لبنان، كما أسس لإدخال المنظمة إلى مرحلة جديدة (أوسلو) يكسب هو فيها فقط. هل كانت تنتظر «منظمة التحرير»، التي خاض أبطالها عمليات بحجم «عيلبون والساحل وكفار هيتس وبيت جبريل والمغير وبين نعيم وتل الأربعين وخزان زوهر ومرجليوت وبيت فوريك وميونخ وخلدة وديمونا وقلعة شقيف»، اتفاقاً بحجم أوسلو ورئيساً على شاكلة عباس؟
ذات مرة ذكر الكاتب الأميركي يوجين روجان في كتابه «العرب»، أن «ثوراتهم تبدأ عظيمة صادقة، عنيدة في التمسك بالحق كاملاً، وتنتهي بمطالب بأدنى السقوف وأقل الآمال». وفي حسابات إسرائيل، هناك تقدير لحجم رد الفعل إزاء كل خطوة، ومشكلة مقاومتنا ــ الفلسطينيين ــ أننا نقوم برد الفعل المطلوب الذي تتوقعه إسرائيل، دون التأسيس لبرنامج وطني مستمر. والأزمة أن حجم الفعل يتوقف عند حدود الرد، ولا يغير من واقع الأمر شيئاً، فيما تبقي إسرائيل مكتسباتها أمراً واقعاً وتبدأ للتأسيس لما بعده.
في انتفاضة الأقصى عام 2000، أسست إسرائيل لفكرة تهويد المسجد الأقصى ودخوله على نحو علني مستمر، وبعد انتهاء الانتفاضة خسرنا كل مكتسبات أوسلو وخرجنا بعدد كبير من الشهداء والجرحى والأسرى. قدمنا صورة محترمة عن التضحية والمقاومة والعمل الاستشهادي، ولكن ما النتيجة؟ احتوت إسرائيل ردّ الفعل الفلسطيني على ضخامته، وها هي بعد عشرة أعوام من الانتفاضة تنتظر احتواءنا لإتمام مخطط تقسيم الأقصى زمانياً ومكانياً، بعدما يستنفد الفلسطيني ما في جعبته من رد فعل، قبل أن يعود إلى كمونه مستعداً لجولة صفرية أخرى.
بعد ذلك، شنّت إسرائيل ثلاث حروب مدمرة على قطاع غزة، لم يكن هدف واحدة منها إنهاء حكم «حماس». فالانقسام الذي صنعناه بأيدينا يمثل «بيضة القبان» لساسة العدو أو «هدية الرب» لشعبه المختار. اطمئنوا، سيحافظون على بقائه تماماً بقدر حفاظهم على سلطة رام الله وتنسيقها الأمني. النقطة التي قد يغفل المقاوم الفلسطيني عنها، أنه لا حيّز كبيراً للعشوائية في ضربات إسرائيل؛ ففي تاريخ الحروب والمقاومات الشعبية، يحاول المستعمرون تثبيت قواعد صراع دائمة التجديد، قواعد هي أهداف في عينها، لكنها أهداف عظيمة الأثر وطويلة البقاء، وتسعى الجيوش بها إلى صناعة واقع يخترق حدود المواجهة العسكرية، إلى عقل الجماهير الباطني، وعقول المقاومين أيضاً.
لم يحدث أنّ دراسة نقدية حقيقية أُصدرت حول ثمار وإخفاقات الحروب التي شُنت على غزة خلال ثماني سنوات، عدا الدراسات التي تحاول إثبات انتصار المقاومة في حربها الأخيرة، واستجلاب الدلائل والبراهين من صحافة العدو حول ذلك. صحيح أن تقويمات الحرب التقليدية في معايير الهزيمة والانتصار قد لا تناسب طبيعة المواجهة الفلسطينية المفتوحة مع العدو. وإن قال أحدهم ذلك، فإنه سيكون موضوعياً. لكن هذا لا يعني ألّا تنشر دراسة في مواطن النجاح والإخفاق، ليس لنعيد النظر في تبني خيار المقاومة المسلحة كخيار مواجهة، بل ــ على الأقل ــ لنحسن توظيفها في ما يقدم إنجازاً ملموساً يمكن البناء عليه.
في الحرب الأخيرة أطلقت اليد في استخدام السلاح واستعراضه. بعد عشرة أيام من الحرب، كانت المقاومة قد استنفدت أكثر ما في جعبتها. تألمت إسرائيل لقصف حيفا وتل أبيب، لكنها امتصت المفاجأة وتأقلمت معها، فيما خسرت المقاومة بسرعة ورقة كبيرة الحجم والأثر لم تؤت نتيجتها وقت الحصاد. وعلى المقلب الآخر، فرض حجم المفاجآت واستعراض السلاح مستوى أعنف من رد الفعل الإسرائيلي في تدمير البنى التحتية والتغول في الأرواح، وهذا ما أهملته حسابات المقاومة. للمفارقة، بدأت الحرب بمئات الصواريخ المنهمرة على مدن العمق، وانتهت بقذائف الهاون على غلاف غزة. الأخطر من كل ذلك أنّ الإمعان في كشف أنواع السلاح سيفرض على المقاومة شكلاً جديداً للحرب المقبلة، وسيجعلها تحتاج إلى إمكانات قد تكون أولها، مثلاً، ضرورة ضرب حيفا في البداية.
من جانب الإنصاف لعدونا، يجب أن نحترم فيه حِسّ النقد ومراجعة الذات. مساحات الصحافة الإسرائيلية كانت مفتوحة على مصراعيها للانتقاد، وحتى الهجوم على كبار رجال الدولة. مع أنّ العدو دولة عسكرية من الطراز الأول، لكن كمّ الانتقاد للمؤسسة العسكرية والسياسية، منشأه أن هناك منافسة وحرصاً على تحقيق أكبر قدر من الإنجاز لمصالح الدولة وأهدافها. والأهم أن يد الصحافة الإسرائيلية مطلقة، برغم ذلك، لم يتهم أحدٌ صحافياً بالخيانة والتخاذل، بل كانت المراجعات تجري على قدم وساق، في مختلف مستويات الدولة.

في الضفة سلطة جاهزة للاحتواء، وفي غزة آثار 3 حروب وحصار مستمر

في الحالة الفلسطينية الأمر مختلف، نتائج الحرب الأخيرة 2014، التي تحاول صحافة المقاومة ونفخر بأننا جزء منها، أن تقنع الشارع بأن خاتمتها كان انتصاراً، تصطدم دوماً بواقع معقد على مختلف المستويات. أسئلة الشارع حول النتائج والأهداف التي أعلنها المتحدث باسم «كتائب القسام» لا تزال قائمة: المزاج الشعبي، ورضا الشارع عن الفصائل، وأعداد من هاجروا على متن قوارب الموت، ومن يحلمون بالهجرة، وليس أخيراً أعداد من يحاولون الهرب يومياً إلى إسرائيل؟
سياسياً، تمثلت نتيجة الحروب الثلاث في 2008 ثم 2012 ثم 2014، بموقف غزة من انتفاضة الضفة والقدس والـ48 اليوم. وعي «الغزاوي» المنهك مكوي إلى أخطر ما يكون. الفصائل اجتمعت واتخدت موقفاً داخلياً بالوقوف على الحياد لمنع الإسرائيلي من تحويل المواجهة إلى حرب عسكرية، ولعل ذلك خطوة لافتة في تفكير الفصائل، لكن الأسباب الأخرى التي لم يكشف عنها، لهذه الخطوة، تثير الريبة. قررت تلك الفصائل حصر الدعم في الفعاليات والمسيرات الجماهيرية فقط دون إطلاق رصاصة واحدة.
علّمتنا إسرائيل في معادلة الصراع، التي ثبتتها بعد حروبها الثلاث، أن ثمن الصاروخ حرب. ومعنى ذلك أن لإسرائيل اليوم الحق والحرية في أن تدير صراعها مع الضفة وباقي المناطق بالطريقة التي تريد، وبالمساحة الزمنية التي تراها مناسبة. فجبهة غزة آمنة إلى آخر مدى، وربما دلّ مستوى العنف في قمع المواجهات مع شبان الحجارة على حدود القطاع، على حالة من الاطمئنان الإسرائيلي إلى حدود الفعل المقابل، كذلك لم يترك العدو فرصة لأيّ صاروخ يتيم خرج من غزة في الأيام الماضية إلا ردّ عليه الردّ الموضعي الذي هو جزء من معادلتها المذكورة.
نهاية، إن تاريخ الثورات علمنا أن أنقاها ما تعبّر فيه الجماهير عن روحها دون أن ينظمها أحد، وأن أفشلها من تبقى الجماهير فيه وسط الميدان وحدها دون قيادة توظف المكتسبات وتحافظ على ديمومة الثورة وتألقها واستمراريتها. سنحاول التفاؤل ما استطعنا إليه سبيلاً. لكن، لنتذكر: في الضفة سلطة جاهزة لاحتواء كل ما يحدث عندما تلوّح إسرائيل باحتجاز أموال الضرائب أو قطع الكهرباء، وفي أزهى المكتسبات ستكون ثمة وعود بوقف الاستيطان وكبح جماح المستوطنين عن الأقصى، حتماً ستنقضها إسرائيل. وفي غزة، ثمة آثار ثلاث حروب لم تعالج حتى الآن، وحصار يزداد اشتداداً. عموماً، قد تبدأ باكورة الاجتماعات بين ضباط التنسيق الأمني مع قيادة الجيش الإسرائيلي، في ظل غياب رموز قيادية حقيقية من شأنها المحافظة على تأهب الجماهير وتنظيمها واستمراريتها.