حرب عاطفية أو ربما قتال بين رموز استيقظت من النسيان أو التجاهل. هكذا خرج مارد الغضب الشعبي من القمقم. الخروج يأتي على هامش حرب الدفاع عن الكرامة في مصر في وجه الجزائر. الحرب رسمية في طابعها التحريضي وترغب في إعادة رسم مسار العواطف من الشعب الى النظام، لكن هذا ليس كل شيء
وائل عبد الفتاح
«ممنوع دخول الجزائريين»، علق الحلاق اللافتة على باب محله المتواضع في قلب القاهرة. عنف رمزي، لكنه ليس كل شيء في لحظة ما بعد «موقعة الخرطوم»، كما تسمي وسائل الإعلام المصرية مباراة مصر مع الجزائر وما تلاها من حرب شوارع.
اللافتة عنيفة وتستجيب لحملة مدججة بكل أسلحة الإعلام الحديث لتوجيه مشاعر العداء والكراهية لعدو خارجي. لكنها في الوقت نفسه معبرة عن شعور داخلي وفجائي بالأهمية. الحلاق المتواضع شعر أن موقفه فجأة يساوي «شيئاً» فعلّق اللافتة وكأنه فتح عكا. هو المارد الصامت الذي خافت منه أجهزة النظام وتراهن عليه معارضة تداري تدجينها في انتظار لصحوة المارد.
شعور خطير لا يمكن اختصاره في جانبه الشوفيني المتعصب. الحدث، الذي جعل الشخص الصغير فجأة يشعر بأنه موجود ومؤثر، لا يمكن أن ينتهي تأثيره عند هذا الحد. وموقف الحلاق الصغير لا يمكن مساواته بما فعله شاعر غنائي أعلن في الصحف سحب أغنية ألّفها للفنانة وردة.
موقف المؤلف عدواني ويركب موجات الظهور في التلفزيون لكل من يمتلك قدرة على الشتيمة. وردة ليست الجزائر. الفن جعلها أكبر من جنسيتها (الجزائرية أو المصرية على السواء). الفن أكبر. وهذا يجعل موقف المؤلف قاسياً وتافهاً مقارنة بموقف الحلاق المتعطش الى الانتقام أو استرداد الكرامة. قادة حرب الانتقام ليس لديهم برنامج جاهز، إذا استثينا تنظيم حفلات للصراخ ورواية حكايات الإهانة.
طريقة الشحن المتزايد تنبئ بشيء ما، ربما هو إعادة ترتيب الخريطة العاطفية للشعب. وربما أيضاً هوجة عشوائية نتائجها لن تكون على هوى مفجريها.
الرئيس السابق أنور السادات أخرج «الإخوان المسلمين» من الكهوف، وفي النهاية قتل بيد متطرف متمرد على «الإخوان»، بعدما أصبح مزاج الغضب المبني على النص الديني مزاجاً عاماً ولا تكفيه «مرونة» و«اعتدال» الجماعة الأم.
إلى أين محاولة ترتيب الخريطة العاطفية؟ هي شحن ربما ينفجر عكس الاتجاه. وغالباً فإنه سيحرك الركود إلى مناطق مدهشة.
عمر الشريف، الذي هاجمته صحف وجماعات ووصفته بأنه «ابن الأصل اليهودي» (رغم أنه من عائلة كاثوليكية واعتنق الإسلام لاحقاً) المغرد خارج سربه المنتمي الى مزاج بعيد عن الوطنية، وقف أول من أمس تحت سفح الأهرامات وحمل علم مصر في مشهد جنائزي، مع جوقة معظمها من نجوم الصف الأول في السينما والتلفزيون.
أصبح الخارج عن الصف يصنع مزاج الصف نفسه. وانفتح الصف على معانٍ جديدة، بينها أن المجتمع المحافظ دافع عن الفن (وخصوصاً الفنانات) عندما كانت أول شتيمة من المتعصبين في ملاعب الكرة «مصر بلد الفنانات». رد الإهانة فكك حزمة لا بأس بها من أحكام جاهزة.
التفكيك لا يعني أكثر من انتهاء التقديس لأفكار انتهت صلاحيتها (مع العروبة أو ضدها... أنت مصري يعني أنك فرعوني... كيف يتعارك أبناء العقيدة الواحدة).
هذه الأفكار، التي تحولت من كثرة تداولها إلى ميتافيزيقا غير قابلة للنقاش، دخلت في منصهر كبير الآن ويعاد تدويرها وستخرج بعد حملة إعادة ترتيب الخريطة العاطفية مادة خاماً لا يعرف أحد طبيعتها.
عبد الحليم حافظ غنى في ستينيات القرن الماضي للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة. وهزمت الدولة كلها. ولا تزال الأغنية تعرض في مناسبات، حتى لو الراية مهزومة. كما حدث بعد مباراة الجزائر. الغضب ليس على خسارة مباراة. لكن على قوة رمزية شحنت جموع الصامتين وحركتهم باتجاهها.
ماذا سيفعل الشعب الفرحان في فرحته، في طريقه للبحث عن بهجة جماعية وإحساس بالتفوق و الانتصار. المسألة ليست انشغالات تافهة. والمشاعر المتناثرة في الشوارع والبيوت وفي الصحف والفضائيات، خرجت من قمقم مهجور ولا يمكن إعادتها.
هل هي بوادر فاشية جديدة أم طحن للأفكار الميتة؟ لماذا استدعت مباراة رياضية كل العواطف الغارقة، والشوفينية المغلفة بالسلوفان الوطني؟
هو اكتشاف لقوى رمزية عبرت الطبقات الميتة من الجلد وأثارت العواطف بشحنات تتلون مع الأحداث. عطش الى الوجود سيكشف بعد قليل عن عدم كفاءة الأجهزة التي ركبت الموجة وأرادت تغيير الخريطة العاطفية للشعب.
نجاح خطة تغيير الخريطة لا يتم كما خطط له. ولا يحدث الانتقال من النقيض الى النقيض. لكن القوى الرمزية تكبر. الخريطة تتغير لكن وفق إيقاع خروج المارد من القمقم. إيقاع لا تقدر أجهزة الدولة بحالها الراهنة على قيادته. ستفلت الأمور الى مساحات غير متوقعة لا عند النظام ولا معارضته. الفلتان ليس سياسياً عادياً، ولكنه ربما استدعاء لسحر التفوق الخاص. سحر شرس يولد شوفينية بغيضة وعنصرية تستدعي زعماء على مقاسها. لكن الحياة اليومية وطول معاناة وقهر الجمهور المتوقع لهذا السحر الشوفيني يمكنه أن يقترح مصيراً مختلفاً، لا مكان فيه لزعماء الراية المهزومة.
النتيجة ليست مضمونة في حال خروج المارد من القمقم وتغيير خريطته العاطفية. الشعب الغاضب من جمهور الجزائر، غاضب بحدة أكبر من سياسات النظام وأدوات الاستبداد (أقسام شرطة مرعبة وجحافل تحمي النظام وقوانين ترسخ الاستبداد الأبدي).
إلى أين ستذهب صورة الشعب الفرحان والغضبان معاً؟ ماذا سيحدث بعد الخروج من القمقم؟ ما هو السحر الذي سيرسم الخريطة العاطفية الجديدة؟ سنرى.


الفساد يمنع أسوار المجد

عصر المواهب الصغيرة


عصام الحضري هو الخسارة الكبيرة على المستوى الكروي. حارس مرمى موهوب، استثنائي، لن ترى الملاعب المصرية مثيلاً له لفترة طويلة. هو مستوى وحده وسط بقية الفريق. وكان يستحق أن يشارك في المونديال ولو بمفرده.
تخيل هواة اللعبة الشعبية الأولى أن العدالة الفنية تمنح للحضري وحده ومن دون منازع أن يتأهل إلى جنوب أفريقيا بدلاً من ضياع فرصة مشاركته وسط خلاصة موهبة اللعب في العالم. ضاع حق الموهبة الكبيرة في العبور الى مساحات أوسع تستحقها. وهذا دليل متجدد على أن مصر تعيش عصر المواهب الصغيرة، وحدها قادرة على التكيف والتعايش واللمعان في ظل أسقف واطئة جداً.
لا يمكن الموهبةَ الكبيرة عبور الحواجز العالية، ما دامت محاطة بأسلوب إدارة مرتبك (وفاسد غالباً)، ونظام لا يتحكم في شهوات ركوبه على أي انتصار، ومجتمع لم يستطع بعد الإفلات من سطوة النظام ليتمكن من حماية مواهبه وعزلها عن مرمى الشهوات الجامحة.
ضياع الفرصة من الحضري هو خسارة ملموسة، وإشارة إلى انغلاق أبواب الرعاية أمام الموهبة الكبيرة، التي تلقى المصير التعس لأنصاف المواهب.


الرئيس السابق أنور السادات (الصورة) أخرج «الإخوان المسلمين» من الكهوف، وفي النهاية قتل بيد متطرف متمرد على «الإخوان»




عمر الشريف (الصورة)، الذي هاجمته صحف وجماعات ووصفته بأنه ينتمي إلى مزاج بعيد عن الوطنية، أصبح يقود صفّ الفنانين




وردة ليست الجزائر، الفن جعلها أكبر من جنسيتها. وهذا يجعل موقف المؤلف، الذي سحب أغنية كتبها لها، قاسياً وتافهاً