ضحى شمسبالكاد صدّقت أن سنة مرت على بدء إصدارنا «مخيمات»! «لأ ولو..!» قلت للزميل علاء العلي، الذي ردّ عليّ باقتضاب بليغ: أرسل المقالة الافتتاحية للعدد الأول، التي شرحنا فيها الفكرة من إصدارنا هذه «الصفحة»، التي سرعان ما فاضت لتصبح صفحتين، نصدرهما كل يوم اثنين منذ سنة، وبالكاد تتّسع لكل ما نريد ويريد قراؤنا أن يقولوه. لا بل إن قرّاءنا، وكثيرون منهم بالمناسبة من كتّاب هذه الصفحة، بدأوا يخطّطون لصفحة ثالثة، ويرسلون إلينا باقتراحات «توسعية» تفوق في قوتها شهية المستوطنين للتوسع في احتلال أرض فلسطين!
مرّت سنة إذاً؟ وكل يوم كانت الأفكار والمقالات والتحقيقات التي ننشرها والمساهمات التي تصلنا، تثبت صوابية الفكرة التي أعلنّاها من اليوم الأول: التعاطي مع المخيمات من الناحية الاجتماعية الصرف. لا من باب المناسبات، حتى لو كانت شديدة الأهمية، ولا من باب الأمن، ولا من باب السياسة، المدخل المفضل للبنانيين في «معالجتهم» للموضوع الفلسطيني. لكن، وإن كان المنطلق اجتماعياً، فإنّ الفكرة ليست بريئة تماماً من السياسة، من ناحيتنا هذه المرة. ذلك أن إغفال الناحية الاجتماعية للمخيمات آت من مكان ما في «المخيلة السياسية» اللبنانية، مكان يرفض النظر إلى الفلسطينيين إلّا من باب «مساهمتهم» ـــــ النشطة يجب القول ـــــ في الحرب الأهلية تارة، أو من باب الخطر الديموغرافي الذي تستشعره بعض «الأيديولوجيات» اللبنانية، إذا تحقّق سيناريو التوطين الذي تخافه ولا يقبله لبنان أو الفلسطينيّون.
هكذا، وفيما يُعترف للأجيال الجديدة من اللبنانيين بالبراءة من وزر الحرب الأهلية، لسبب وجيه جداً هو أنهم لم يكونوا قد ولدوا بعد، يحرم أولاد الجيل نفسه من الفلسطينيين هذه البراءة، ويُرفض النظر إليهم إلّا كأشخاص يضمرون غير ما يقولونه كل صباح ومساء: لسنا مع التوطين لا نقبله ونريد حق العودة. من هذا الباب السياسي تحديداً، كان خيارنا المهني بالتعاطي مع المخيمات كمجتمع هامشي، مطلوب فتح قنوات تصريف بينه وبين «العالم الخارجي». ليس من أجل تنفيس احتقانه الاجتماعي، كهدف وحده، بل لإتاحة نافذة يطل منها اللبنانيون من جهة، على بعض ما جنته أيدينا، بقصد أو من غير قصد حين ارتضت أن تحبس الناس في غيتو من هذا النوع ستّة عقود، ومن جهة أخرى، يطل الفلسطينيون على هذا الوعي المستجد للبنانيين، فيجعلون منهم، منا، شركاء في تصور الخروج من المأزق، لا أعداءً في خندق مقابل ينظرون إليهم شذراً.
الخطوة التالية، كانت بالبحث في المخيمات ذاتها عن كتّاب صحافيين، يكتبون بأنفسهم لصفحتي «مخيمات». فهل هناك أفضل من ساكن المخيم للحديث عن مشاكله؟ لكننا اصطدمنا بدايةً بتقمّص سواد عظيم من سكان المخيمات (أو حتى خارجها) لخطباء المنابر لدى تصدّيهم للكتابة عن أنفسهم: كأنهم كانوا يقلّدون ما يكتب عنهم، كأنه هكذا «يجب» أن تكون الكتابة. شيء يراوح بين ما «يُعتقد» أنه شبيه محمود درويش، وما يعتقد أنه الخطاب السياسي «المطلوب». كان مثيراً للدهشة هذا الكمّ من الصور البلاغية الجاهزة. كأن فلسطين هي ابنة «الإنشاء» أو «الاستظهار». كان علينا إقناعهم بالتعبير بطريقة أُخرى «عاديّة» ، ثم جرّبنا العامية... « بينغو» قلنا بعدها، فقد نجحنا.
أما المفاجأة المهنية السارّة، فقد كانت أننا استطعنا العثور على ما يشبه بداية «عرق الذهب» كما يقال بلغة المناجم، أي بداية منفذ إلى يوميات الفلسطينيين تحت الاحتلال، (وبالتالي في كل بلدان وجودهم) من خارج ما تفرضه خيارات أو واسطة وكالات الأنباء والصحافيين المحترفين. بالطبع نظرة المحترفين ضرورية للتطوّرات والأحداث، إلّا أنها لا تعكس الصورة كما هي، ذلك أنه يحكمها الكثير من القيود، وتقع في بعض الأحيان ضحية حرفيتها تحديداً. أضف إلى ذلك، أن معالجة قضايا قديمة كالقضية الفلسطينية بحاجة إلى مخيّلة إبداعية من أجل عدم الشعور بالملل أو التعوّد، وهو أخطر، وهذا يعني إعطاء الكلام لأصحاب اليوميات أنفسهم، ما جعلنا نستكشف أرضاً جديدة، عذراء، كنا بأمسّ الحاجة إلى التواصل معها، ليس فقط مهنياً بل وجدانياً أيضاً.
واليوم نحن سعداء بقرّائنا وكتّابنا، لا بل إننا فخورون بأننا فتحنا الطريق أمام العديد من الصحف اليومية والمواقع الإلكترونية للاهتمام بالمخيّمات وأهلها من هذه الزاوية تحديداً، وآخرها تجربة الزميلة «الحياة» التي اختتمت منذ أيام دورة تدريبية لشبان وشابات من المخيمات اللبنانية على تغطية أخبارهم بعيداً عن السياسة، بتمويل من السفارة البريطانية، ومن المتوقع أن يبدأ الزملاء الجدد قريباً مشروعهم.
واليوم؟ ماذا بعد؟ صفحة ثالثة؟ ملحق خاص أسبوعي؟ أم مدوّنة على الموقع تفتح باب التواصل على مصراعيه؟ الأرجح أنكم أنتم، قراءنا وكتّابنا، من سيحدّد مصير هذه الصفحات. اليوم نحن في نهاية «سنة أولى مخيمات» على وزن «سنة أولى حب». «العمر كله»، كما يقال، لكن بدون المخيمات نفسها. لا «تعتلوا» همّ التسمية، فلتتحرر فلسطين وساعتها ..يحلّها ألف حلّال.