شرف الإصبع الكبيرة
لم أتوقع أن أرى مشهداً حقيقياً، لكن كأنه مسحوب من أحد أفلام «الصعايدة» عندما «يغسلون عارهم» بأيديهم لاستعادة شرف العائلة الاجتماعي! أن أكون أحد «مشايخ الصلح» لاستعادة شرف إحدى العائلات المسلوب، فالموقف حدث أمامي، وكنت الشاهدة عليه.
كنا نعمل في أحد المشاريع الدولية الصغيرة للأطفال والفتيان، عندما وقع عراك مفاجئ في القاعة.
لم أستوعب في البداية سبب ما حدث، إلى أن هدأت وطأة العراك، وجاءت العائلة الموتورة!
ما الذي حصل؟ أحد الصبية داس على قدم إحدى المنشطات الملتزمات بدون قصد. تحديداً على إصبع قدمها الكبيرة، الإبهام، ما يعني أنه تحرش بوضوح وصراحة بشرف العشيرة!
يومها، كدت أنفجر من الضحك وأنا أرى ملامح الغضب الجدي في عيونهم، يا إلهي .. هل أصبح شرف الفتاة في إصبع قدمها الكبيرة! كنت أعتقد أن في الأمر مزحة ما! شيئاً غير حقيقي، قبل أن تكبر الحكاية لتكون قضية رأي عام في المنطقة. «صاروا رجال!»، قالوا وهم يضربون الأخ الذي فعل فعلته، والذي كان غير مدرك، تحت الضرب واللطش الذي جاءه من كل مكان، لخطورة الأمر!
لا أدري أي تعقيدات اجتماعية تلك التي تختصر شرف الشعب في إصبع قدم كبيرة. «ماذا لو كانت الإصبع الصغيرة لقدم الفتاة»! كدت أقول وأضحك لو أن المقام يسمح. لربما إذاً، قامت حرب أهلية توازي الاقتتال الداخلي الفلسطيني!
لم يكن هذا المشهد الأقرب للفكاهة قاسياً بقدر بشاعة وجهه الآخر، المدفون في خبايا الحارات وخلف البيوت المغلقة. هناك، يسكن عالم سفلي للمجتمع، وجه سافر للحزن والموت، للحياة والحرية أيضاً، مقابل وجه «فاضل» آخر، يلبس السواتر الدينية. ذلك التطرف المرئي الذي فرضه التشدد وسطوة الخوف من الناس والعيون والتقاليد، يقع في التناقض: فالخطيئة ليست خطيئة إذا ما كانت بعيداً عن مرمى الاكتشاف، لكنها تصبح كذلك عندما يعرفها الآخرون. هكذا تبرمج قوانين النفاق الاجتماعي. على الفرد أن يكون فارغ الوعي، فاقد القدرة علي تحديد الخطأ والصواب ومدى اقتناعه بسلوكه وأفكاره القائمة على «قيل» المجتمع وقوله.
فعملية الإسقاط النفسي الذي يمارسه المجتمع الشيزوفريني على حياتنا أكبر مما نتصور، إذا ما قررنا أن نتحلل من تفاصيله، لنراه من بعيد: بعيد عنا، بعدما أرهقنا بخزعبلاته التي لا تلبث أن تلتهم مساحة أكبر من إنسانية وجودنا المعقد، لندرك انفصامنا عن كوننا نحن .. لا أكثر.
غزة ـــ أسماء شاكر

■ ■ ■

الأرض والعرض

طبيعي أن يختصر الشرف بأتفه الأشياء، كإصبع قدم أو شعرة من رأس صبية. أتفهم جيداً أن يحاول البعض إسقاط فكرة الشرف على أمور أخرى قادرين على حمايتها بعدما فقدوا أغلى ما كانوا يملكون. لا تزال ستي وكبار الضيعة لدينا يقولون «الأرض هي العرض». لكن بعدما ذهبت الأرض لا بد من عرض جديد ندافع عنه حتى لا يقال إننا بلا شرف وبلا حمية.
شيء غريب أن يُتهم صبي بالتعدي على شرف فتاة لأنه لمس جزءاً من جسدها بغير قصد، وإن كانت إصبع قدم. لكن غير المنطقي أن تتهم فتاة بشرفها وبأنها «على الأرجح غير بنت»، وأنها «ارتيست» لأنها تحمل سيجارة بيدها. من المقبول أن يدخن شاب التبغ وحتى الحشيشة، لكن أن تمسك فتاة بسيجارة فعندها «التار ولا العار» على طريقة خال هنادي في قصة «دعاء الكروان» لنجيب محفوظ.
أذكر مرة عندما شتمني وصديقتي سائق سيارة أجرة، بعدما أقلّنا إلى أحد المقاهي عند الخامسة ظهراً. فنحن أكيد بلا أهل وبلا «تربية» لأننا خرجنا من بيتنا في هذا الوقت «المتأخر». أما والد صديقي فيستنفر ويستفزّ عند رؤية فك إحداهن يتحرك لمضغ العلكة، التي طالما كانت علامة مسجلة لبنات الهوى في شارع الحمرا أيام شبابه.
أما صديقي المتخرج من الجامعة، فيفضل أن يتزوج بأجنبية «عاملة السبعة ودمتها» على أن يتزوج بعربية «باس تمها غير أمها» لأنها قليلة شرف ولا تصلح لأن يضعها في بيته لتربية أبنائه.
مسألة الشرف نسبية. لكن دائماً ما يكون الشرف مؤنثاً، ولا يتعلق أبداً بشاب يقرص صبية في الزحام، أو بآخر يلقي رأسه على كتفها في باص. ولا بشاب يتبول على جانب الطريق أثناء مرور طالبات. ولا يتعلق الأمر أبداً بالشرف عندما ينقل وزير خزينة وزارته فارغة إلى وريثه، أو عندما يقدم زعيم ما اعتذاراً عن جرائم اقترفت يوماً بحق شعبه. وليست مسألة شرف أن يترك الرجال نساءهم يرقصن في أحضان المحتل ليحموا أنفسهم من المعتقل ومن الجوع.
بيروت ــــ سحر البشير