مؤسّسات ماليّة تتحدّث عن «اختلافات أيديولوجيّة» قد تعوق الإصلاحتتفاوت التوقّعات في شأن أداء الحكومة الجديدة على الصعيد الاقتصادي. فملفّات كثيرة تحكمها خلافات جذريّة إلى درجة قد تُصنّف «أيديولوجيّة». هذا ما تركّز عليه مؤسسات مالية وبحثية خارجية أصدرت تقاريرها عن لبنان بعد تأليف الحكومة الجديدة، وهي مؤسسات لا تُظهر أي اهتمام بالأهداف الاقتصادية والاجتماعية العليا في البلاد بقدر ما تسعى إلى تقديس طروحات سابقة عن الخصخصة وباريس 3 وأولوية خدمة الدين العام، كأنها مسلّمات لا يستوي أي إصلاح من دونها، ما يطرح تساؤلات عمّا إذا كان الأمر يتعلق بممارسة ضغوط من أجل منع استكمال النقاشات التي بدأت في لجنة صوغ البيان الوزاري.
هذه وجهة نظر ثلاث مؤسّسات ماليّة واستشاريّة واقتصاديّة عالميّة، تضمّنتها نشرة «بنك بيبلوس»، «لبنان هذا الأسبوع»:
عدّل المصرف الاستثماري «Merrill Lynch» توقّعاته للنموّ في لبنان إيجاباً من 5.8% إلى 7% لعام 2009، وقال إنّ عام 2010 ستبلغ نسبة النموّ فيه 5% عوضاً عن 4.5%.
وفي تقريره الأخير عن لبنان، رأى المصرف أنّ حكومة الوحدة الوطنيّة التي تألّفت تبقى المحفّز الأوّل للاقتصاد، غير أنّ طبيعة الائتلاف المعقّدة تُخفض مستوى التوقّعات.
وأشار إلى أنّ النشاط الاقتصادي القويّ ساعد على احتواء العجز الكبير في الموازنة رغم الضغوط الماليّة التقليديّة التي ظهرت خلال الإعداد للانتخابات النيابيّة في حزيران عام 2009.
غير أنّ المصرف لاحظ أنّ مشاكل العجز المالي تبقى هيكليّة لأسباب عديدة. أوّلاً: قطاع الطاقة لا يزال ينتظر الإصلاح. فهو الآن يمتصّ مبلغاً غير متناسب من موارد الموازنة، إذ وصلت قيمة الأموال المحوّلة إلى مؤسّسة كهرباء لبنان إلى 55% من عجز الموازنة في عام 2008.
ثانياً: يجب إتمام خصخصة رخصتي الهاتف الخلوي التي طال انتظارها.
ثالثاً: يجب أن يكون إصلاح النظام الضريبي الذي سيرفع الضريبة على القيمة المضافة إلى 15% إضافة إلى إصدار قانون ضريبة الدخل الموحّدة، أولويّتين هيكليّتين في المدى القصير، ولكن من المتوقّع أن يتأخّرا.
ورأى المصرف أنّ من بين المسائل المطروحة تبقى خصخصة الهاتف الخلوي الأكثر منطقيّة خلال المدى القصير بالنسبة إلى حكومة الوحدة الوطنيّة، حيث تحتاج الأخيرة إلى الموارد لكي تُخفض العجز خفضاً ملموساً.
على صعيد آخر، قال «Merrill Lynch» إنّ لدى الحكومة محفّزات للاقتراض بالليرة اللبنانيّة عوضاً عن طلب الأموال من الأسواق الدوليّة، نظراً إلى أنّ الاحتياطات الأجنبيّة لدى المصرف المركزي وصلت إلى 100% من الناتج المحلّي الإجمالي، ولأنّ معدّل دولرة الودائع يستمرّ بالانخفاض فيما يسجّل ميزان المدفوعات فوائض قياسيّة.
وفي النهاية توقّع المصرف أن تمضي الحكومة بالتبديل الاختياري لسندات «يوروبوندز» المستحقّة عوضاً عن إصدار سندات جديدة للدين الخارجي.
من جهته، يشدّد المركز الدولي للأبحاث الاقتصاديّة، «HIS Global Insight»، على أنّ أهميّة حكومة الوحدة الوطنيّة والتوافق يجب ألّا تُضخّم، فالتأخير المتكرّر يرفع مخاطر الأزمات السياسيّة.
وقال المركز في تقرير إنّ الاتفاق على الحكومة، رغم أنّه كان مساومة، ساعد لبنان على تجنّب انهيار سياسي جديد، بهوامش ضيّقة. غير أنّه حذّر من أنّ لبنان ليس في مأمن عن مخاطر أزمة، ولفت إلى أنّ اتفاقيّة تقاسم السلطة قد تؤدّي إلى عقد طويلة في الحكومة في ما يتعلّق بمواضيع أساسيّة، مواضيع يعدّ الاختلاف بين الأكثريّة والأقليّة بشأنها حتمياً.
وهذا سيعكس واقع أنّ الانقسامات الأيديولوجيّة بين الطرفين لم تنته بعد، ما سيؤثّر حتماً على عمليّة اتخاذ القرارات مجدّداً.
ورأى المركز أنّ الحكومة الجديدة تواجه تحدّيات كبيرة تتضمّن تراكماً كبيراً للعمل التشريعي، وقطاعاً عاماً مترهّلاً في حاجة ماسّة إلى الإصلاح والخصخصة الجزئيّة، والدين العام المتضخّم والحاجة الطارئة إلى الإنفاق الاستثماري وعلى البنى التحتيّة، إضافة إلى إعادة تأهيل قطاع الطاقة. وأكثر من ذلك، عليه أن يعوّض عن سنوات الأزمات السياسيّة.
وكان المركز قد أشار في السابق إلى أنّ الفريقين السياسيّين فشلا خلال السنوات الأربع الماضية في إنتاج معادلات للحكم قابلة للحياة، فالأولويّات كانت الانقسامات السياسيّة والوعود الانتخابيّة الكبيرة. وقال إنّ أيّاً من الطرفين لم يقدّم معادلة كاملة للإصلاح الهيكلي لمساعدة لبنان على مواجهة الأزمة الماليّة العالميّة. ولاحظ أنّه مع ارتفاع الدين العام إلى مستوى 50 مليار دولار في نهاية عام 2009، ستحتاج الحكومة إلى كلّ جزء من القدرة التشغيليّة التي تستطيع توفيرها لتطبيق إصلاحات اقتصاديّة في القطاع العام طال انتظارها.
وختم التقرير بالقول إنّ الفشل حتّى الآن في تطبيق إصلاحات القطاع العام وتطبيق خطّة الخصخصة، يعني أنّه اعتُمدت طرق قليلة من أجل خفض عبء خدمة الدين، التي تمثّل حوالى 48% من نفقات الموازنة وتمتصّ حوالى 54% من وارداتها. كذلك أشار إلى أنّ الحكومة الجديدة ستتحمّل مسؤوليّة القطاع العام ذي العبء الكبير، وستُحاكم على قدرتها على إحداث تغيير حقيقي.
توقّعات «Merrill Lynch» وتحليلات «HIS» ترافقتا مع إعراب «مجموعة أوراسيا» (Eurasia Group) عن شكوكها في قدرة الحكومة على الإجماع على إصلاحات اقتصاديّة. وقالت إنّ من المتوقّع أن يجعل رئيس الحكومة سعد الحريري محور ولايته تطبيق إصلاحات هيكليّة، عوضاً عن التوصّل إلى اتفاق على الأسئلة السياسيّة الحسّاسة. كذلك من المتوقّع أن يحكم كقائد توافقي يستطيع إدارة اقتصاد البلاد.
غير أنّ المجموعة أضافت أنّ هذه المقاربة القائمة على «عدم المواجهة» لا يُتوقّع لها أن تؤدّي إلى نتائج إيجابيّة، فمن غير السهل لبلاد مقسومة سياسياً أن يلتفّ زعماؤها حول أجندة اقتصاديّة إصلاحيّة. ورأت أنّه إضافة إلى الخلافات الأيديولوجيّة على سياسات مثل الخصخصة، فإنّ العائق الأساسي هو أنّ «العرقلة» التي عاقت تأليف الحكومة، ستستمرّ على الأرجح على صعيد الإصلاح الاقتصادي.
وعن التشكيلة الحكوميّة، قالت المجموعة إنّ المعارضة طالبت بالسيطرة على وزارات أساسيّة مرتبطة بالإصلاح مثل وزارتي الاتصالات والطاقة، وقد تستخدم المعارضة هذا الموقع كداعم في باقي الخلافات السياسيّة.
أمّا في ما يتعلّق بمؤتمر «باريس 3» للمانحين وتوصياته، فقالت المجموعة إنّ زعماء المعارضة أوضحوا أنّهم يرفضون خصخصة شبكات الهاتف الخلوي، وأضافت أنّ من المحتمل جدّاً أن يقوم السياسيّون باحتجاز إصلاحات قطاعَي الاتصالات والطاقة رهينتين لطلبات سياسيّة أخرى. وبالتالي، رأت المجموعة أنّ الحكومة الجديدة في لبنان لن تُطبّق على الأرجح إصلاحات جذريّة في المدى القصير.
(الأخبار)