«سوليدير» تحوّل أسواق الوسط التقليدية إلى «مول» للأثرياءمحمد وهبة
«سوليدير تعيد إحياء أسواق بيروت». الأمر لافت! فالعنوان يوحي أنّ أسواق أياس والطويلة والجميل والصاغة وأوراد والأروام، ستعود إلى سابق عهدها وفق النمط العربي القديم، أسواقاً شعبية تكون مقصداً للبنانيين كافة، ومكاناً لتفاعلهم وتواصلهم... إلّا أن المفاجأة تمثّلت في الجولة التي أقامتها «سوليدير» للإعلاميّين أمس بعنوان «إعادة اكتشاف أسواق مدينة بيروت بحلّتها الجديدة والمستحدثة»، فالمشهد كان صادماً، تماماً كمشهد هذه الأسواق بعدما أزيلت المتاريس وخطوط التماس، فالحيّز الذي صمد في الحرب العبثية هُدم كلياً، ومُسح ما بقي من ذاكرة اللبنانيين عن صور مدينتهم وتاريخ أسواقهم التقليدية الشهيرة... لقد بقيت الأسماء ولكن تاريخ وسط بيروت مُحي كلّه.
هذه الأسواق حوّلتها سوليدير إلى مبانٍ حديثة على النمط المستورد، وتحوّلت إلى «مول» ضخم ذي أدراج إلكترونية، ومحالّ استأجرتها شركات كبرى تبيع الماركات العالمية بأسعار باهظة، و“شوادر” إلكترونية لتحجب أشعة الشمس... لقد طُرد الفقراء منها نهائياً، وصارت للأثرياء فقط.
يتذكّر وزير المال السابق جورج قرم، كبيروتيّ عتيق، انتشار محال البقولات والزهور والمسامك والملاحم والملابس... في 5 شوارع متلاصقة أبرز ما كان يميّزها، أنها كانت لكل الفئات الاجتماعية، «وهذه كانت ميزة أسواق بيروت التاريخية، إذ كان هناك اختلاط بين الفقراء والأثرياء، فكان إلى جانب محل يبيع الثياب المرتفعة الثمن، كان يقوم محلّ للخردوات... اليوم من المعيب أن نسمّيها أسواقاً، فهي باتت “مولاً” ضخماً مبنياً على نموذج ما قامت به دول الخليج (باستثناء اليمن وعمان) التي هدمت كل شيء قديم، وبنت مكانه المولات الضخمة».
الجريمة استوردت ديكورات «هوليوود» بعدما أجرت إبادة جماعية معمارية
أما نقيب المهندسين السابق عاصم سلام، فيرى أن «سوليدير» مَسَحت التاريخ والذاكرة والنسيج الاجتماعي لأسواق وسط بيروت، فالعمارة ليس لها إلا أن تعكس صورة المجتمع، ولكن في الوسط التاريخي عَكَسَت «سوليدير» صورة الروّاد الجدد، أو الأثرياء، بعيداً عن الخليط الطبقي الذي كان يرتاد هذه المنطقة في أيام عزّها. ويشير إلى أن الهدف من إنفاق أموال ضخمة على إعادة بناء هذه الأسواق، وإلغاء أيّ مسحة شعبيّة عنها، هو أمر يرتبط بطبيعة مشروع «سوليدير» والمفهوم الذي قام عليه، «فهو مُنشأ لفئة معيّنة من الناس فقط، وربما سنحتاج في الأيام المقبلة إلى «كارت خصوصي» للسماح لنا بدخول هذه المنطقة».
والمعروف تاريخياً أن أسواق بيروت هي البقعة الوحيدة في الوسط التي تعود إلى القرون الوسطى في العهد الإسلامي، ولذلك هي الوحيدة التي كانت تشبه الأسواق الموجودة في الشام وفي عدد من المدن اللبنانية والعربية، أما بقية منطقة وسط بيروت، فتعود إلى أيام الانتداب، والعمارة فيها تعكس هذه الفترة بالذات، بدليل أسماء الشوارع وبعض المباني!
تزوير الحقائق والذاكرة والعمارة، يُزعج سلام، فالأسواق هي المنطقة الوحيدة التي هُدمت من دون أي مبرر على الإطلاق، إذ إن المباني كانت سليمة... ويكشف عن أن الفرصة سنحت له للاطّلاع على الصيغة الأولى التي تقدّم بها المهندس الإسباني المكلّف وضع تصميم مشروع الأسواق قبل أن تعدّله إدارة «سوليدير». الغريب أن هذا التصميم كان فيه شيء من الروح العربية، أو ما يمكن وصفه بأنه رونق شرقي، فقد كان مقرّراً استخدام بعض موادّ الإعمار المتواضعة التي تؤثر في شخصية المشروع وتراعي حميميّة التاريخ والذاكرة والشعب، إلّا أن «سوليدير» أجرت تعديلات جذريّة، فجرى، على سبيل المثال، استبدال «أباجورات الخشب» المعروفة بالشبابيك البرونزية على النمط الغربي الحديث، وأُعطيت الواجهات شكلاً فخماً جداً غريباً عن البيئة الاجتماعية والموروثات الثقافية، ففقدت السوق الروح الشعبية التي كانت تتحلى بها.
هذه الجريمة، كما يصفها قرم، استوردت ديكورات «هوليوود» بعدما أجرت إبادة جماعية معمارية على حساب أصحاب الحقوق، فلم يعد هناك أي أصالة في هذه المنطقة، وطُرد منها اللبنانيّون على اختلاف طوائفهم.
جريمة «سوليدير» لا تقف عند حدّ، ففي إطار جشعها، وفي ذروة انحراف مشروع إعادة إحياء أسواق بيروت، عمدت الشركة إلى إلغاء عقود بيع وإيجار سابقة لمحالّ في سوق الصاغة، بعدما اكتشفت وجود ثغرة في «وعد البيع» تسمح لها بإعادة الأموال مع الفائدة، وتأجير العقارات مجدداً، وذلك بهدف طرد أيّ مستثمر ينوي إنشاء تجارة لا تليق بالطابع الفخم للمشروع وتهدّد صفاء الأثرياء... لكنّ بعض هؤلاء المستثمرين الذين عدّوا أنفسهم متضرّرين من الأمر قرّروا مواجهة «سوليدير» في المحاكم، فالأرباح التي كان يمكن تحقيقها من تملّكهم هذه العقارات كانت كبيرة لأن أسعارها بين البيع وفترة الاسترداد تضاعفت مرّة على الأقل.
وبعد هذه الخطوة حاولت «سوليدير» أن تمرّر صفقة أكبر، فوضعت على جدول أعمال الجمعية العمومية بنداً أخيراً يظهر بوضوح سعيها إلى تملّك الأسواق التجارية عبر تأسيس شركة محليّة تملّك غالبيتها... إلّا أن المدير العام للشركة منير الدويدي، نفى خلال الجولة أمس أن يكون المشروع قد أقرّ في الجمعية، وقال: «لا يزال الأمر مطروحاً وقيد الدرس، ولكنه لم يطرح في الجمعيّة العمومية». وهذا يثير أسئلة كثيرة، فما حاجة «سوليدير» إلى تملّك مشروع الأسواق التجارية؟ ومن قد يتملّك أسهم هذه الشركة لاحقاً؟ وهل الهدف أن «ينتفع» بعض النافذين في الشركة وخارجها من المشروع بعدما ارتفعت أسعار العقارات في لبنان، ولا سيّما في منطقة الوسط، ويتوقّع أن ترتفع باطّراد في السنوات المقبلة؟
وتجدر الإشارة إلى أن كلفة المشروع كانت تقدّر بنحو 150 مليون دولار، ولكن الدويدي قدّرها أمس بنحو 300 مليون، مشيراً إلى اتّباع سياسة التأجير في الأسواق، حيث جرى إنشاء 400 محل تجاريّ، وكلفة الإيجار تراوح بين 750 دولار و1500 دولار بحسب موقعها، بمعدّل ألف دولار للمتر في مساحة قابلة للتأجير تبلغ 71903 أمتار، أي إن إيرادات الإيجار الإجمالية تقدّر بنحو 71.9 مليون دولار سنوياً، بعدما كانت تقدّر سابقاً بنحو 25 مليوناً، وبالتالي سيرتفع دخل الشركة من الإيجارات وحدها إلى 96.9 مليوناً.


2900 سيارة

هي قدرة استيعاب المواقف الأربعة التي أنشأتها سوليدير تحت الأسواق، وهي لن تكون مجانيّة بل مدفوعة.

17 مطعماً

تتوقع إدارة «سوليدير» أن يبلغ عدد المطاعم في الأسواق القديمة 17، على أن يُنجز منها قبل نهاية السنة الجارية 3

150 ألف متر

هي المساحة المبنية الإجمالية للأسواق، منها 71903 أمتار قابلة للتأجير، وقد خصّص لسوق الصاغة 15989 متراً.


غاليري لا فاييت