لماذا لم تخرج من مصر معجزة صينية؟ هل هناك استبداد منتج واستبداد عقيم؟ الإجابة الوحيدة المتاحة أن عقلية إدارتها قديمة رغم كل الحداثة البادية على أجنحتها القديمة والجديدة، والولاء للشخص هو عنصر البقاء الوحيد. ولهذا فإن الإجابة الوحيدة عن سر العقم هي: فتّش عن المماليكوائل عبد الفتاح

موظفون بلا وظيفة



كيف عادت «السلامونيلا تيفي» إلى مصر؟
السؤال الغريب يبدو طبيعياً اليوم. فالبكتيريا المنقرضة عادت إلى قرى مصرية في محافظة القليوبية ومعها وباء «التيفوئيد». ١٠٠٠ على أقل تقدير من شاربي خليط مياه الشفة ومياه الصرف الصحي يعالجون منذ أسابيع في مستشفيات حكومية. التشخيص الأول لم يظهر أنه «التيفوئيد». لكن التدقيق أكد عودة الوباء المنتهي في العالم كله.
التقارير الحكومية الأولى أنكرت «التيفوئيد»، الذي أصاب قرية كاملة (البرادعة) في محافظة القليوبية (على بعد ٤٠ كيلومتراً من العاصمة) ثم انتقل منها إلى قرى أخرى.
التيفوئيد كان في الأيام الأولى سراً حربياً. كان الخبراء القدامى في إدارة الدولة يعلمون مدى الفزع الذي سينتاب الناس في مصر إذا عرفوا بوصول «السلامونيلا تيفي» بصحبة حزمة الأوبئة المرعبة، وفي مقدمتها أنفلونزا الخنازير. هجوم الفيروسات والأوبئة كشف عورات جهاز إداري عتيق. جهاز افتقد الثقة بنفسه في مواجهة الأنفلونزا وتصرّف بهستيريا الخائف من الحريق. الهستيريا لا تزال مسيطرة، وطوال الأسابيع الأخيرة لم يعرف أحد في مصر، لا مسؤول ولا فرد عادي، متى تبدأ الدراسة في المدارس؟ ولا هل يقام موسم الحج هذا العام أم لا؟
ومن عجائب الهستيريا أن أشهر محرقة للخنازير كانت في محافظة القليوبية، حيث استوطن التيفوئيد، وحيث يحكم المستشار عدلي حسين، أشهر محافظ في مصر، وأحد أذكى الموظفين الكبار. ورغم أنه «صناعة» النظام بامتياز، فإن لديه مساحة يلعب فيها خارج السرب المعتاد للمحافظين. ابن النظام، لكنْ له وضع مميز يتيح له توجيه ضربات ولكمات إلى أشخاص متنافسين معه على القرب من المناطق الدافئة في السلطة، حيث مراعي المماليك الكبار وأتباعهم المماليك تحت التمرين.
عدلي حسين يجيد المعارك ويرهق خصومه، ومن يعاديه لن يجد سوى العذاب في انتظاره. إنه متفرغ لهذا النوع من المعارك. يختار الخصوم من المعارضة أو الخارجين عن طوع حكومته فقط، لكنه يختار منافسين من دوائر مرتبطة بالنظام. صراع على النفوذ أحياناً. وربما من أجل كسب صفة «الخارج عن النظام»، فهو دائم الحديث عن الفساد والإهمال، كأنه ليس أحد المسؤولين عن الفساد والإهمال. وهو بالفعل واحد من النماذج الكبيرة التي تصوّر المنصب في مصر على أنه منحة لا مهمة.
المسؤول من هذا النوع يشكو مثله مثل المواطن، متناسياً أنه صاحب سلطة أو مسؤولية. الشكوى هنا بديل العمل. وعندما عادت «السلامونيلا تيفي»، ومعها التيفوئيد إلى قرى القليوبية، لم يكن هذا بسبب غضب إلهي أو مؤامرة كونية، بل بسبب إهمال وفساد. والكشف عن التيفوئيد ومناقشته ليسا أمرين يمسّان سمعة المحافظة، لكنهما أمران يمسّان مسؤولية المحافظ.
هذه بديهيات غائبة. ومعها إجابات لأسئلة أخرى: هل تألّفت لجنة تحقيق في انتشار وباء التيفوئيد؟ الأسئلة لا تتوقّف: لماذا لم تهتز الحكومة مما يحدث في قرى القليوبية؟ ولماذا يستمر عدلي حسين في منصبه، رغم أنه المسؤول عن الوباء سياسياً وتنفيذياً؟
هناك طبعاً من يحمي عدلي حسين. هناك أيضاً ثقافة عدم المحاسبة «لا تحاسب إلا من خرج من دائرة الحماية». المسؤول يعرف أنه إذا حافظ على شبكة علاقاته داخل مراكز قوى النظام فلا شيء يهمّ، حتى لو انتشر الوباء وقتل كل سكان مصر باستثناء سكان القصور العالية.
النظام لا يهمّه المسؤولية أو الكفاءة، يهمه الولاء والتبعية. وهذا ما يعرفه خبراء المناصب جيداً. ويعرفه المهتمون بالتاريخ كأول عناصر دولة المماليك.
المماليك هم العبيد الصغار الذين يخطفون ويوضعون في حضانات داخل قصور الحكم، وتجري تربيتهم على مناهج الولاء والطاعة ليصبحوا بعد ذلك هم الحكام، وجهاز السلطة الواسع والقابض على أمور الدولة.
المسؤول في مصر مهمته تأمين مكانه بالمعنيين: العام (تأكيد السيطرة السياسية والأمنية) والخاص (الحفاظ على الكرسي أطول فترة ممكنة بعيداً عن عواصف سكان القصر العالي).
عدلي حسين يعرف ذلك. ويدرك أنه لو انتشر التيفوئيد في كل شبر من محافظته ومات منه كل دقيقة ألف مريض، فلا شيء يهمّ سوى الرضى السامي عليه. لن يحاسَب أو يدفع ثمن غفلته عن إدارة مصالح الإقليم الذي يحكمه منذ ١٠ سنوات.
التحرك الوحيد في مواجهة انتشار الوباء كان مطالبات باستقالة عدلي حسين. مطالبة غريبة لأنها تختصر المسؤولية في نوبة صحيان ضمير المحافظ، والأهم هو وضع أسس المحاسبة والمسؤولية، فما حدث ليس مجرد خطأ شخصي مباشر ولكنه خطأ في إدارة أزمة المياه في محافظة شاسعة. الخطأ لا بد أن يقابله الحساب. هذه أبسط قواعد الدولة الحديثة، فالمسؤول موظف لدى الدولة، لا لدى رئيس الجمهورية. ومن واجبات الرئيس أن يحاسب من يختارهم. هذا هو الوعي الغائب في الدولة الحديثة، أن الوظيفة مسؤولية لا شرف يتباهي به المقرّبون من أصحاب الباب العالي، أو فرصة في بنك الحظ لجمع الثروات ونسج شبكة علاقات عامة.
الوظيفة مهمّة ودور لا بطاقة عضوية في نادي المماليك. لماذا لم يكن أمام الغاضبين من اجتياح التيفوئيد قرى القليوبية سوى المطالبة باستقالة عدلي حسين؟ إنها رغبة يائسة في إيقاظ إحساس المسؤولية لدى محافظ يبرر كارثة التيفوئيد بتهالك البنية التحتية. هذا سر قوتّه: تدني أحوال البنية التحتية. إنهم موظفون بلا وظيفة تقريباً.
يبدو عدلي حسين وقطاع من المسؤولين كأن وجودهم في موقع المسؤولية قدر إلهي أو تضحية منهم. يتكلمون كما لو أن لا علاقة لهم بالمهمّات الموكولة إليهم. وهي بالفعل ليست مهماتهم وحدهم. إنها مهمة الدولة كلها. ولهذا فإن دور المسؤول هو تسيير الأحوال وعبور الأزمات بسلام. موظفون بلا وظيفة. وهذا ما يجعل المسؤولية في مصر مثيرة للآسى. الدول الحديثة تحاسب موظفيها محاسبة شخصية. لكن المسؤولين يعملون بلا بنية ولا أساسات، إنهم «خيال مآتة».

حرب استعادة الهيبة


في جبل الحلال انتهت القصة. القاتل قتل في اللحظة نفسها الذي اكتشفت فيها الحكومة الكهف. انتقام لحظي. الشقي طاردته الأجهزة، وقبل أن تمسك به أرسلت ٣ رصاصات وأنهت حياة «المرشدي» قاتل مدير مباحث مدينة السويس
ضابط نشيط، ملامحه طيبة، ومشهور بالنزاهة، وقع في فخ عصابة من الأشقياء. العواطف جاهزة هنا وتستدرّ الدموع على خسّة تجار المخدّرات. القصة تستفز أيضاً عشّاق هيبة الدولة وسطوة أجهزتها الأمنية. هيبة على المحك بعد حوادث متكرّرة تجرأت فيها العصابات على الشرطة.
ليس العصابات فقط بل قوافل الخارجين عن القانون، ذلك الخروج الصغير مثل سائق الميكروباص، الذي طلب منه ضابط رخصة القيادة فحاول الهرب وعندما حاول الضابط إيقافه وتعلق بمقدّمة الميكروباص سحبه السائق الهارب أكثر من ١٠٠ متر.
الحكاية الأصلية بطلها بدوي مسيطر على منطقة المنتجعات، يسرق الفيلات في غياب أصحابها، ويفرض قانونه وسلطانه على الجميع في ظل شعور عام بأنه في دائرة حماية ما، الجميع يعرف أنه بطل الغزوات البدوية على المساكن المهجورة لكن المحاضر تقيّد كلها ضد مجهول. لا أحد يعرف سر حمايته ولا من أين له القوة التي تفلت به من العقاب. انفلات عمومي يعرف هو كواليسه ومفاتيحه السرية أم مهمّات متبادلة بينه وبين قوى عليا تحميه من اليد المهيمنة على الأمن، بينما هو يقدم خدمات لا يستطيع غيره تقديمها، ويؤدّي الأدوار القذرة التي تصعب على أجهزة رسمية؟
التفسيرات كلها دارت حول موديلات شهيرة في تاريخ العلاقة بين أجهزة الأمن ونوع من فتوّات الأماكن الصعبة، أشهرها كان عزت حنفي، الذي أنشأ مجموعة عائلية كاملة يديرها بمثالية مستوحاة من أساطير اللصوص.
البدوي سارق المنتجعات بلا ملامح حتى الآن لأنه اختفي بعد قتله ضابطاً جديداً لم يعرف الشفرة التي ينعم في ظلّها البدوي بالخفاء. البدوي كان قوياً وهو يوجّه تحذيراً إلى الضابط: «ابتعد عني لا تقترب. وإذا أتيت مرة أخرى فسأقتلك».
لم يصدّق الضابط المتحمس، وبالفعل حاول مرة أخرى تفتيش بيته ليجد في انتظاره رصاصات أنهت حياته فوراً. القصة تسربت على استحياء ومن دون تفاصيل كثيرة، وغطت عليها حادثة السويس. الشرطة جيّشت كل طاقتها لملاحقة قاتل مدير المباحث. التجييش كان بإحساس الحرب فعلاً. حرب استعادة الهيبة. وهو ما انتهى بمقتل القاتل.
هل كانت عملية انتقام أم ثأر أم ذعر من الهارب في جبل خارج سيطرة الحكومة وأجهزتها الأمنية؟
سؤال صعب بالنسبة إلى رومانسيين لم يلحظوا أن الحرب الانتقامية تلغي القانون، وتجعل السلاح وحده حاكماً للشوارع والجبال والبيوت. وهذا منطق موروث من المماليك أيضاً. منطق حكم الإقطاعيات الصغيرة لا الدولة المركزية. دولة المماليك تقوم على توافق مراكز القوي، وهذه خلفية خشنة للقصة الرومانسية.

شيخوخة الاحتجاج



استقال المستشار محمود الخضيري من القضاء. ترك منصبه كنائب رئيس لمحكمة النقض، وغادر المنصة في حركة احتجاج أثارت جدلاً.
الجدل غير التأثير. النظام تعمّد الصمت واللامبالاة. ترك بعض الصحف تحاول الانتقام من المستشار المستقيل، وتعتدي عليه كرمز من رموز استقلال القضاء. الاستقالة لم تهزّ النظام ولا مؤسسة القضاء، والجدل انحسر في الملفات السياسية، هل كان يحق للمستشار وغيره من رموز تيار الاستقلال الهروب من ساحة المعركة؟ سؤال ردّ عليه بسؤال: أليست الاستقالة حركة احتجاج توقظ النائمين؟
بين الاحتجاج والهروب شعرة أفقدت الاستقالة قوتها. النظام تجاهلها. عدّتها الكتيبة الصحافية دليل إدانة، بينما غابت قوى مؤثرة يمكنها أن تحيل الاستقالة على قنبلة تهز استقرار السطة القضائية. الاستقالة حدث لم يتكرر. سبقه اعتكاف كبير القضاة في المحكمة الدستورية. والنظام غافل عن التقاط الإشارات، والمجتمع المدني فاقد حيوية المواجهة. الجميع في انتظار موسم توزيع الأنصبة.
الرحلات كلها مقطوعة والساحة خالية إلا من «رعب» المواجهة بين النظام والإخوان المسلمين. مواجهة خرافية تصنع الخوف من الحركة بعيداً عن النظام. تتزايد رغبة التصاق تشبه الأقدار، كأن هناك عقد إذعان وملكية يخشى الطرفان من إنهائه.
النظام أفرغ الحياة السياسية تقريباً من كل الخصوم ولم يبقَ إلا الإخوان. أبقاهم في دائرة ملتبسة بين الحظر والشرعية. الجماعة هي القوة الوحيدة الباقية على ساحة الأحزاب المدجنة. قوة تعاني الحظر. السيطرة إذاً، كل السيطرة، للنظام الذي يمكنه أن يضرب الجماعة كما يحدث الآن لأسباب قانونية تغطّي على الجانب السياسي. وهذا سر انتزاع القوة والحيوية من مبادرات السياسة. الكل تحت السيطرة، ويعمل وفق حيّز محدد. السياسة كأنها أقدار جاهزة أو لعبة من ألعاب القصور.
وهذا ما جعل الجسد السياسي عليلاً ومعطوباً وغير قادر على تلقي الهزات بموجتها الصحيحة.
قد يكون الاحتجاج شمل قليلاً عن مداه الزمني فأخذ في طريقة «حركة كفاية» التي لم تعد سوى ملجأ لأيتام مبارك.
لم تلتقط الأجساد السياسية النائمة شرارات «كفاية» بما يناسب قوتها الدافعة. وأراد البعض استمرارها المطلق، فظهرت أعراض الشيخوخة والعجز عند استقبال هزّات مثل استقالة المستشار الخضيري.
الاستقالة سببها خطة الوزير في تدمير المجلس الأعلى للقضاء (أعلى سلطة قضائية)؟ لا أحد استطاع إيقافه، كما لم يناقش أحد أسباب الاستقالة. الهرب من الإقطاعية كان هو المكسب الوحيد أمام قاض مستقيل.