تنتشر مهنة الخردة بين أبناء مخيم عين الحلوة لكونها المهنة الأكثر شيوعاً التي «تدر» على أصحابها المال الكافي للعيش الكريم. وتبقى هذه المهنة، رغم مخاطرها الصحية، المصدر البديل لأبناء المخيم في ظل حرمانهم من العمل في 67 مهنة، بحسب القانون اللبناني
عين الحلوة ــ سوزان هاشم
يصحو أبو يحيى (55 عاماً) قبل شمس الصباح. يحضّر عدّة الشغل، التي لم تتعدّ يوماً عربة بأربع عجلات يجرّها الرجل بين أزقّة مخيم عين الحلوة حيث يسكن، ويجمع فيها ما تصل إليه يداه من قطع بلاستيك وحديد وتنك مرمية بين أكوام النفايات. رحلة يوميّة بين الأزقّة لا بدّ منها، وقد تتعدى الأزقة لتصل في بعض الأحيان إلى... نفايات مدينة صيدا أو أي مكان آخر بعيد «تودّيني إله إجريّ».
مساءً، يعود أبو يحيى من «وظيفته» إلى المخيم ليبيع «منتجاته» في أحد محال الخردة الموجودة هناك، بمبلغ من المال يختلف حسب نوعية البضاعة وكميتها. ويتراوح المبلغ ما بين «10 آلاف و40 ألف ليرة لبنانية، يعني حسب شطارتنا». بعبارة أخرى، مبلغ يكفي لتأمين الحاجات الأساسية للعائلة المكونة من 6 أفراد. هل يكفي؟ يجيب الرجل بحسرة «بدنا نعيش إيش مكان وهيدي مهنة حرة».
لن يكون أبو يحيى العامل الوحيد في هذه المهنة في عين الحلوة، فغالبية أبناء هذا المخيم يمتهنون «جمع الخردة»، حتى النساء منهم. وقد تكون مريم أبرز مثال على ذلك، إذ لم تمنعها سنواتها الخمسون ولا حتى أمومتها من تحمّل مشقات هذه المهنة. تجرّ جسدها المنهك مسافاتٍ طويلة، من أجل العثور على قطعة «من هنا وهناك»، تبيعها لتأمين حاجات أطفالها الثلاثة وزوجها العاجز. أما عن مدخول هذا العمل، فتكتفي مريم بعبارة واحدة «مستورة والحمد الله».
تبقى مريم أشفى حالاً من غادة. تلك المرأة التي دفعتها أحوالها الاجتماعية، وخصوصاً بعد انفصالها عن زوجها، إلى الالتحاق بالعاملين في جمع الخردة من أجل إعالة أطفالها الأربعة. تصحو غادة صباحاً وتنطلق إلى عملها، مصطحبة طفلتها الرضيعة لأنها غير قادرة على تركها مع أخواتها.
تراوح يومية العامل في جمع الخردة بين 10 و50 ألف ليرة
لئن كانت غادة قد أجبرت على هذا العمل لأجل أطفالها، إلا أن عامر، ابن السنوات السبع، فلم يجبره أحد عليه. فقد ورث الطفل مهنته أباً عن جد. تعلّم عامر الخردة من والده الذي كان يصطحبه معه. عمل عامر برفقة الوالد ثلاث سنوات قبل أن يستقل عنه ويؤسس عمله الخاص، تاركاً مقاعد الدراسة. ينتقل عامر على دراجة هوائية، مستعيناً بكيس من «الخيش» يربطه فيها، ويضع فيه ما يجمعه من تنك المشروبات الغازية والبلاستيك، وغيرها من القطع الخفيفة الذي يستطيع حملها. لا يخفي عامر خوفه أحياناً من المخاطر التي تهدده أثناء عمله، وخصوصاً أنه أصيب مرات عدة بجروح خلال جولاته على مكبات النفايات، ولكن «ما باليد حيلة، وشوي شوي عم اتعوّد عالشغلة، خصوصاً اني مجبور ساعد أبي بمصروف إخوتي».
ما يساعد على انتشار مهنة الخردة في مخيم عين الحلوة دون سواه، هو توافر العديد من «البُوَر» في داخله، أي المحال التي تشتري بضاعة بائعي الخردة مقابل «ثمن نقدّره حسب كمية القطع ونوعيتها، والأغلى طبعاً هو قطع الحديد»، يقول صاحب أحد هذه المحال الذي رفض الكشف عن اسمه. ويشير الرجل إلى «أننا ندفع عادة للبائع ما بين 10 آلاف و50 ألف ليرة». ينتهي عمل بائع الخردة ليبدأ عمل صاحب البورة، فبعد تسلم البضاعة، يقوم العاملون في البورة «بفرز قطع الخردة، ومن ثم فرمها بواسطة فرامة الحديد، ليصار إلى بيعها إلى المصانع».
وإن كانت هذه المهنة تسهم في سدّ حاجيات بعض العائلات، إلا أن وجود «بور فرم الخردة» وسط البيوت في عين الحلوة يعرّض السكان إلى الخطر في أحيان كثيرة، وخصوصاً أن غالبية المواد هي من البلاستيك «وهو مادة قابلة للاشتعال». وهذا ما حصل منذ عام تقريباً في أحد أزقة المخيم، حيث نجا جيران أحد تلك البور بأعجوبة من الحريق الذي اندلع آنذاك. ولا تقتصر المخاطر على الحرائق، فقد تجلب هذه البور الكثير من الأمراض، بعدما باتت مكاناً ملائماً لتكاثر الحشرات والجرذان ومصدراً لانبعاث الروائح الكريهة.
رغم كل تلك المساوئ، إلا أن الفقر يجبر الأهالي على المخاطرة بصحتهم من أجل تأمين لقمة العيش.. وربّما الموت. وفي هذا الإطار، تشير سلام علي من جمعية التضامن إلى أن «العاملين بتلك المهنة معرضون للموت في بعض الأحيان، فمنذ سنوات مثلاً توفي فتى على جبل النفايات في صيدا، بعدما دهسته الجرافة». كما يتعرض العاملون، وخصوصاً الأطفال، للكثير من الإصابات، حيث «تسجل الجمعية دائماً تعرض أطفال لجروح يكون مصدرها زجاج النفايات والآلات الحادة التي تغرز في أيديهم، لأنهم يفتشون عشوائياً بين النفايات». ويعتبر أمين سر لجنة الدفاع عن حق العودة فؤاد عثمان أن هذه المهنة «هي من أكثر المهن التي يتعرض العامل فيها للإصابة بأمراض معدية غالباً ومزمنة». وفي هذا الإطار، دعا عثمان الدولة اللبنانية للعمل «على إعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه المدنية والإنسانية، وفي مقدمتها حق العمل حتى يتمكن من إعالة أطفاله وممارسة حياته كغيره من القاطنين في هذا البلد».
وبعيداً عن الحوادث الصحية، قد يتعرض العاملون، وخصوصاً الأطفال، لحوادث أمنية، إذ «يلجأ الأطفال في معظم الأحيان عن غير قصد، إلى لمّ أغراض من محيط المنازل، فيُتّهمون بالسرقة». وتلفت علي إلى أن «بعض الأطفال اقتيدوا إلى سجن الأحداث بسبب هذا».


يردّ الناشط الحقوقي حسام الميعاري انتشار مهنة جمع الخردة في المخيمات إلى «حرمان الفلسطيني في لبنان من مزاولة الكثير من المهن، ما يدفعه للبحث عن أي عمل بديل يعتاش من خلاله». أما السبب الآخر لانتشار هذه المهنة فهو «أنها غير مكلفة، إذ يكفي أن يملك العامل بها عربة، كما أنه غير مجبر على الالتزام بأوامر رب عمل، فهو يعمل لحسابه الخاص، ولا يتقيّد بدوام معين». ويلفت ميعاري إلى أن «ما يشجع العامل الفلسطيني على هذه المصلحة هو غياب المزاحمة بينه وبين اللبناني، فالأخير لا يرضى بهذا العمل لما يحمله من مشقة وبهدلة»