«نحن هنا» حتى آخر اليوم
اليوم، اليوم الذي لم يعد مهماً، مثله مثل باقي الأيام. أما سبب أني أبداً دائماً أقول اليوم، فهو أني بدأت كذلك أول مرة، وسأكمل إلى أن ينتهي اليوم، اليوم الذي نصبح فيه شعباً يسكن وطناً.
اليوم بدأ «بطوشة» صغيرة بيني وبين شخص حاول أن يتطاول على فلسطينيي الـ 48 (داخل الخط الأخضر)، وليس هذا الأمر بحد ذاته هو ما أزعجني، لكن تكرر الموضوع (هذا الشخص لم يتطاول عليّ شخصياً، لكنه قال إن معظم الموجودين في الداخل قد جرت أسرلتهم بالكامل، وإنهم نسوا أصلهم... إلى آخر هذا الكلام الفارغ الذي لا يمكن السكوت عنه). وعندما أقول: «تكرر الموضوع»، أعني أن الأمر قد تكرر أمامي أكثر من مرة، وخاصة في غرف الدردشة الإلكترونية.
لا أدري إلى متى علينا نحن الباقين هنا، أن نستمر بإثبات فلسطينيتنا للعالم كله.
ألا يكفي أننا أيضاً جزء من هذه المأساة اللانهائية التي ندعوها «نكبة»؟ ألا يكفي أننا نواجههم يومياً، ويومياً نصادف شتى أنواع التنكيل، إن لم يكن جسدياً فمعنوياً ونفسياً ومادياً... إلخ؟ إلى متى سنستمر بإثبات فلسطينيتنا؟ لكن لا أحد يستمع إلينا، فنحن «محسوبون» على إسرائيل!
بأغنية لفرقة «دام» تقول: «العالم لليوم بيعاملنا إسرائيليين/ وإسرائيل لبكرا تعاملنا فلسطينيين»! نعم نحن فلسطينيون شاء من شاء وأبى من أبى، لكن لمَ يجب أن نثبت الأمر دائماً؟
هنا، لا يخطر ببالي إلا قصيدة الشاعر العظيم توفيق زيّاد «أناديكم»، حيث يقول:
«فمأساتي التي أحيا/ نصيبي من مآسيكم». والموضوع لا نهائي، الموضوع لا بداية له أصلاً! فلا أنا أذكر متى بدأ أول مرة، ولا أنا أعرف متى سينتهي. وجلّ ما أريده هو أن أخلص منه!
ولو أن الأمر وقف هنا، لما كانت مشكلة. الموضوع يتجاوز هذا، كأن يسألونا: هل أنتم عرب؟ ما هو دينكم؟!
يا إلهي! إلى أي درجة يمكن أن يصل غباء أحدهم ليسأل مثل هذه الأسئلة؟!
كأن بقاءنا هنا هو جريمة، أو عار يجب الخلاص منه!
لكن لا. بقاؤنا هنا هو دليل ثابت وقاطع على حقنا الأبدي بأرضنا وتمسكنا الدائم بحق العودة الذي لا عودة عنه.
نحن هنا لنفتح أعين من يريد إغماض عينيه عن الحقيقة والتظاهر بأنه لا يرى. ونحن هنا لنقول لمن يحاول تشويه الحقائق وتحريف التاريخ وتغيير الواقع، إنّ هذه الأرض كانت وستبقى لنا. ونحن هنا لنمنع تدنيس أرضنا أو المساس بمقدساتنا ما استطعنا. ونحن هنا لنقول للجميع: نحن هنا، من أول هذا «اليوم» الذي لا ينتهي. اليوم الذي بدأ منذ 61عاماً. اليوم الذي ما زال مستمراً ونحن لا نزال فيه.
الجليل ـــ أنهار حجازي

■ ■ ■

مراسل «الأخبار» بعكا

نحن هنا باقون أيضاً في مخيمات الشتات التي تذكّرنا، إن نسي أحد منّا، بأننا لاجئون. نعتقد نحن أبناء المخيمات بأنّ ثمة لكل لاجئ منزلاً ينتظرنا عند العودة إلى أراضي الـ 48. للحقيقة، لسنا نعرف شيئاً عن طريقة حياتكم، وما الذي تعانون منه. نستغرب كيف تتحملون العيش بين مَن طردنا وطردكم، نعلم أنه لو قُدّر لكم لرميتموهم في البحر، ربما. لكننا نظن أنكم تعيشون على الأقل والضروريات متوافرة لكم. أكثر من ذلك، عندما نسخر من أحوالنا نقول: «على الأقل تاعول الـ 48 عندهم كهربا، عندن مستشفى، عندن مدرسة». لكن مع كل هذا، نحب مخيماتنا، وما يدفعنا للبقاء فيها، مع شعوري بأنها تضيق يوماً عن يوم بنا، هل هو الأمل بالعودة وبدء حياة جديدة في فلسطين؟ هل هو تصورنا لـ«هناك»؟ والدتي «دام ظلّها الوارف» تحاول دائماً أن توقظني من هذا الحلم، طالبة مني أن «فتّش ع مستقبلك يا ماما» لأنها تعتقد أن «فلسطين مش رح ترجع، شو متوقع اليهود يتركولكم ياها؟». ربما كانت أمي اللبنانية محقة، لكنني «تيس»، مع أن أصلنا من عكا، لا من الخليل، ومقتنع بعودتنا قريباً جداً جداً (بالإذن من السيد حسن نصر الله). كنت أرد عليها دائماً: «وحياتك رح نرجع ورح تكوني عايشة لما نرجع». ولأغيظها أكثر، كنت أقول: «يمكن إفتح جريدة هناك، أو بشتغل مراسل للجريدة من عكا شو بعرّفك؟». هكذا يريد معظم أبناء المخيمات: العودة إلى فلسطين، ولكل لاجئ حلم خاص به. منهم من يريد أن يكون نائباً في المجلس الوطني، أو من يريد أن يعمل مزارعاً بأرضه «لآخر العمر». حسناً، سأتخيل أننا عدنا، لكن كيف ستكون عودتنا؟ كيف سندير اقتصاد بلادنا المحرر؟ كيف سيكون شكل عملتنا الجديدة؟ على ماذا سنختلف سياسياً؟ أما السؤال الأصعب فهو «مَن سيدير معمل ديمونا النووي؟». أما والدتي، فعندما تسمعني، تقول: «أنطر يا كديش لينبت حشيش».
برج البراجنة ــ قاسم س. قاسم