Strong>الشركات تستغل المزارعين لزيادة أرباحها في ظلّ غياب الدولةفي ظل تغييب الآليات الحكومية لإرشاد المزارعين ومساعدتهم، تتحوّل شركات الاتجار بالمبيدات والأسمدة الزراعية إلى مرشد «مشبوه» يستغل حاجات المزارعين وعدم إلمامهم بالتطورات والمخاطر لتسويق منتجات معينة، بهدف الربح وتحسين نسبة المبيعات... النتيجة زيادة في أكلاف المزارعين، وهي مشكلة تُضاف إلى مشاكل التمويل وانعدام الاستثمارات وعدم الاستجابة للمواصفات في الأسواق الخارجية

محمد وهبة
في ورشة عمل نظّمتها أخيراً وزارة الزراعة بالتعاون مع منظمة «الفاو»، نهض أحد المزارعين من مقعده وروى تجربته باستياء بالغ، قائلاً: «استثمرت 100 ألف دولار في زراعة الجنارك، وقد وقعت منذ البداية في فخ الشركات التي تبيع المبيدات الزراعية، وصارت كل شركة تعرض عليّ الدواء المناسب لإبعاد الآفات عن هذا النوع من الأشجار. لم أجد من يساعدني إلا مندوبي هذه الشركات الذين لديهم مصلحة بإقناعي بشراء أحد منتجاتهم، فاشتريت «على الخيرة» بأسعار مرتفعة... وبعدما أثمرت الأشجار وحان وقت قطافها، وقعت في فخ الوسطاء في السوق، الذين بدأوا باستغلالي لنيل حصص وافرة من الإنتاج، في مقابل تصريفه، فإذا بالعائد من استثماري لا يكفي لمعيشتي... بعد ذلك، ضرب البرَد أشجاري، فكان لا بد من حمايتها بواسطة «برادي» خاصة تبلغ كلفتها نحو 40 ألف دولار، فذهبت إلى «كفالات» للحصول على قرض، فإذا بهم يطلبون مني الضمانات الغريبة، فكيف يمكن أن أضمن لهم أن لا تُصاب الأشجار بآفات زراعية أو أن لا تتضرر بالكوارث الطبيعية؟».
هذه القصّة التي يرويها المزارع المنكوب تشبه قصصاً كثيرة تحفّز المزارعين على ترك بساتينهم وحقولهم لليباس والتصحّر أو التمدد العمراني، لكن أبرز ما فيها أنها تروي كيف تترك الدولة المزارعين لقمة سائغة للوسطاء وللشركات التجارية التي تسوّق الأسمدة والمبيدات والبذار من دون أدنى تنظيم أو رقابة، بل من دون أي تدخّل من وزارة الزراعة أو الأجهزة الأخرى التي يجب عليها دعم المزارعين وتمكينهم من خفض كلفة إنتاجهم وزيادة جودته وحمايته من الآفات، من دون الإضرار بالصحّة العامّة أو البيئة، وبأكلاف قابلة للتحمّل.
وفي ورشة العمل المذكورة التي حملت عنوان «تقوية وبناء القدرات لمشاريع الإرشاد الزراعي»، عرض أكثر من مزارع تجارب مماثلة، وتنوّعت الشكاوى والمطالب، ما أظهر أزمة المزارعين بوصفها أزمة بنيوية لا تقتصر على جانب محدد، بل تشمل كل الجوانب.

الشركات المستغلّة

ليس هناك من يرشد المزارعين إلى طرق الإنتاج الأقل كلفة أو إلى كيفية تسويق بضائعهم أو إلى الأنواع المطلوبة في السوق المحلية والعالمية، فهم متروكون وحدهم، وهذا ما أتاح لشركات بيع المبيدات واستيراد تعبئة الفراغ واستغلاله لمصلحتها، فبدأت تؤدي دور المرشد الزراعي، ناصحة المزارع باستخدام هذا المبيد دون غيره، وحددت له فترات الاستخدام وكميّاته بما يتلاءم مع رغبتها في زيادة استهلاكه منه، علماً بأن الهدف المعلن يتمثّل في زيادة الإنتاج ونوعيته. إلا أنها في الواقع «تسعى إلى زيادة استهلاك المبيدات»، بحسب ما يعترف به المدير العام لوزارة الزراعة سمير الشامي.
وتشير دراسة لمنظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) إلى أن دور شركات القطاع الخاص يتوسّع بقدر ما تتوسع الهوّة بين وزارة الزراعة والمنتج أو المزارع، وبقدر ما تزداد حاجة القطاع الزراعي إلى تحديث بنيته التحتية وزيادة التصدير والاستهلاك المحلي. وهذا ينطبق، بحسب دراسة الفاو، على مؤسسات المجتمع المدني التي تضطر لأداء أدوار إرشادية في ظل الفراغ، إلا أنها تُنظّم النشاطات الزراعية وورش العمل التدريبية بحسب مشيئة الواهب وأهدافه ومصالحه، أي إن هذه النشاطات كانت تضمن مصالح الدول المانحة، لا المصلحة الوطنية للقطاع.

كارثة جدّية

لقد أظهرت نتائج الفحوص التي أجريت في مناطق مختلفة ارتفاع نسبة المبيدات الزراعية على نحو لافت، وأظهرت أن ذلك يُسهم في زيادة كلفة الإنتاج، ولا سيما أن الشركات تحرص على تسويق المبيدات المرتفعة السعر نظراً لهامش أرباحها المرتفع. وأظهرت هذه النتائج أيضاً أن بعض مشكلات تصدير المنتجات الزراعية سببها الإفراط في استخدام المبيدات الذي يؤدّي إلى ارتفاع نسبة رواسبها السامّة فوق السقف المحدّد أوروبياً في إطار معايير سلامة الغذاء.
ولا يقتصر دور الشركات على إرشاد المزارعين إلى نوع المبيدات، بل إن مصالحها تتجاوز ذلك إلى إقناعهم بنوع الزراعة التي يجب أن يستثمروا فيه، وغالباً ما يكون الأمر مرتبطاً بمخزون المبيدات لدى هذه الشركات أو بهامش الأرباح الذي يوفره نوع معين يناسب زراعة معينة.
يقول رئيس اللقاء الزراعي الدوري جهاد بلوق: «ليس واقعياً أن تقرر شركات القطاع الخاص حاجات الدولة الغذائية، فأهمية الإرشاد تكمن في أن تعرف الدولة حاجات المجتمع لترشد المزارع في الإنتاج. فعلى سبيل المثال، إذا نجحت زراعة الثوم في سنة ما، يجب أن تتأكد الدولة أن لا يتوجه قسم كبير إلى إنتاج الثوم، فيما هناك أنواع أخرى تستهلك محلياً سنضطر إلى استيرادها من الخارج. والمعلوم أننا نستورد قسماً كبيراً من الحبوب للاستهلاك المحلي من تركيا، فيما الأراضي الشاسعة في لبنان قياساً إلى عدد السكان تسمح لنا بإنتاج الحبوب. لكن الأمر يحتاج إلى بدء مرحلة عملية على أرض الواقع». ويشير بلوق إلى أنّ على الدولة أن توزّع الأصناف على المزارعين بحسب نوع الإنتاج وطبيعته وانسجامه مع المناخ والتربة، ووفقاً لحاجة الاستهلاك المحلي والتصدير، بما يسهم في عملية مكافحة الكساد.

الإرشاد والتسليف

لم يعد الإرشاد الزراعي وظيفة هامشية بلا أي نتائج، فالأمر يبدأ بتحضير الأرض وصولاً إلى الإنتاج وما بعد الحصاد، ثم التسويق وبيع المنتجات، أي إنها تشمل كل عملية الإنتاج، ولا سيما أن الواقع اللبناني أُخضع لدراسات كثيرة، وكلها أظهرت النتائج السلبية لغياب برامج الإرشاد المنظّمة من الدولة مباشرة. وآخر هذه الدراسات أجرتها وزارة الزراعة والفاو، واستغرقت ثلاث سنوات، وتبيّن أن هناك حاجة لإنشاء جهاز خاص بالإرشاد الزراعي في وزارة الزراعة، لا أن تكون دائرة في مصلحة، مقترحة إنشاء مديرية خاصة بالإرشاد، تكون لها ثلاثة مجالات عمل، واحدة مركزية والثانية على صعيد المحافظة والثالثة على صعيد القضاء.


412.15 مليون دولار

هي قيمة مستوردات الأدوية والأسمدة الزراعية ومبيدات الأعشاب منذ 2005 حتى آب 2009، وقد ارتفع استيرادها في 2007 بنسبة 67.3% من 56.2 مليون دولار إلى 94.1 مليوناً. وفي 2008 ارتفع بنسبة 15.7% من 94.1 مليوناً إلى 108.9 ملايين


مسح زراعي