عبد الحليم فضل الله هل تتمخض الأزمة المالية عن نظام عالمي جديد يعيد توزيع الأدوار الاقتصادية ما بين الدول؟ وهل التوقع الذي أطلقه تقرير استراتيجي صدر قبل خمس سنوات(1)، بأن مركز العولمة سينزاح إلى الشرق خلال عقدين من الزمن، بدأ يتحقق في وقت مبكر؟
المتفائلون يقرأون ذلك في بيانات القمم الدولية المتوالية، وفي مسار مجموعة العشرين خصوصاً: الأسواق الناشئة والدول النامية تحرز تقدماً، والباب الذي فتح أمام التنوع في إدارة الاقتصاد العالمي لا يمكن إغلاقه بسهولة. وتوحي تصرفات الدول الصناعية الكبرى بأنها مهتمة بتوسيع نادي النخبة العالمية، وأنها أكثر تقبلاً لتحقيق شراكة عميقة في السياسة (الاقتصادية) الدولية.
ويمكن قراءة البيان الأخير لقمة دول العشرين على نحو يؤيد هذا التفاؤل، فقد ركز على أهداف لا تبدو مألوفة في قاموس ما بعد التسعينيات، ويؤدي تطبيقها إلى وضع اليد على الرأسمالية المالية التي انفلتت من عقالها، ومنها: تحقيق التناسق بين السياسات المالية والنقدية والتجارية من جهة، وسياسات الاقتصاد الكلي من جهة ثانية؛ وضبط النظام المالي لمنع تكرار الارتكابات التي أدت إلى الأزمة؛ وإصلاح البنك الدولي وصندوق النقد ليكونا أكثر ديموقراطية وانفتاحاً على متطلبات الدول الناشئة والنامية، بما في ذلك مراجعة أنظمة التصويت.
لكن هل يكفي ذلك للقول مع رئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروسو إن العالم يتجه نحو «عولمة جديدة» تقوم على قيم الاعتماد المتبادل؟ وهل إضافة اثنتي عشرة دولة إلى نادي الكبار (إلى جانب الثمانية الكبار أنفسهم) يبشّر بانبعاث اتجاه عالمي جديد ينبذ التهويمات النيوليبرالية؟
لسوء الحظ، أدّت مؤشرات الانتعاش التي ظهرت أخيراً (وهي غير مطمئنة حتى الآن) إلى تعطيل النقاش العميق والواعد بشأن مستقبل النظام الاقتصادي العالمي، وفي ذروة البحث المحموم عن حلول، تضمن هذا النقاش نقداً جوهرياً لسياسات الحقبة الريغانية ــــ التاتشرية، ولعقيدة السوق التي زادتها موجة التسعينيات تطرفاًً. نجح الضخ المالي في كبح جماح الأزمة (إلى حين؟)، لكنه بدد في الوقت نفسه الآمال المعقودة على قيام نظام عالمي جديد أكثر رشداً وإنصافاً، وتتردد في الغرف الداخلية للأسواق والمنظمات الدولية والمؤسسات المالية، أصوات مليئة بالرضى وخالية من التواضع، وبات لدى بعض أنصار النموذج الذي تداعى ما يكفي من الجرأة للتقليل من أهمية الممارسات الضارة التي أفضت إلى الانهيار، وبرزت أخيراً دعوات إلى إضفاء المرونة على المعاملات المالية بدلاً من التشدد فيها، لأن فرض مزيد من الضوابط التنظيمية على المصارف في فترات الانكماش سيفاقم تبعات الأزمة..كما يقول هؤلاء.
الحكم على الرأسمالية المالية سيكون مخففاً، فهناك من أخذ على

المجال الأوروبي الأميركي بدأ يستعين بآخرين كي لا يضطر إلى تبادل تصدير الأزمات وخوض المغامرات
عاتقه إنقاذها بأي ثمن، حتى ولو تطلب ذلك استقدام شركاء جدد من خارج بيئتها التقليدية. لم يعد مطلوباً تطوير مقاربات شاملة، أو إجراء مراجعة عميقة لسياسات ربع قرن من الوعود الأسطورية والتفسخ الأخلاقي وانعدام المسؤولية، وبما أن الأزمة هي أزمة أسواق ومؤسسات مالية، فلتكن الحلول في المكان نفسه أي داخل الصناعة المصرفية حصراً، وعوضاً عن الأفكار الكبيرة، لينصبّ الجهد على تصميم الحلول التقنية التي تسمح بتصغير حجم الفقاعة المالية، وتضمن في الوقت نفسه بقاء النظام المالي العالمي على حاله لكن مع مراعاة بضعة شروط تؤدي إلى تقليل المخاطر. مثل: زيادة ملاءة المصارف ورساميلها، وضبط الإفراط في الاستدانة، والتأكيد على الشفافية المالية والتشدد في ضبط المؤسسات الكبيرة التي تمتلك القدرة أكثر من غيرها على الإفلات من عقوبات السوق.
لقد أُحبطت على ما يبدو فرصة أخرى لقيام نظام جديد، مع أنّ البيانات الصادرة عن القمم العالمية تريد قول شيء آخر. وعلى عكس ما يُعتقد، إن جعل مجموعة العشرين منبر التعاون الدولي الأول كما جاء في الفقرة الأخيرة من بيان قمة بيتسبرغ، لا يدل على انقلاب في المسار العالمي بقدر ما يصبّ في خانة الجهود الهادفة إلى الحفاظ على جوهر السياسات القائمة ومنع قطار التغيير من المرور. ثمّ إن دخول الدول الناشئة بقوة على خط التعاون الدولي في مواجهة الأزمة هو بالنسبة للدول الصناعية أفضل من ترك الأمر في يدها هي وحدها، فالمجال الأوروبي ــــ الأميركي لم يعد قادراً على استيعاب الأزمات الرأسمالية الدورية بمفرده، ومن الآن فصاعداً عليه الاستعانة بآخرين كي لا يضطر إلى تكرار ما اعتاد على فعله في السابق، أي تبادل تصدير الأزمات بين العواصم الكبرى، وفي بعض الأحيان، تحويل الأزمات الاقتصادية إلى أزمات سياسية أو مغامرات حربية.
فقدت الرأسمالية المالية زخمها وتكاد تفقد مقومات استمرارها، لكنها تمكنت بقوة النظام السياسي العالمي من حماية نفسها، بعدما سُمح لها باستهلاك جزء كبير من الموارد الحقيقية المتاحة للأجيال المقبلة. ومع كل الصخب الإصلاحي الذي يدوّي في أروقة المنتديات العالمية، فإننا نعود تدريجياً إلى نقطة البدء أي إلى اللحظة التي سبقت انفجار الأزمة قبل عام تقريباً. ولا معنى للحديث عن إصلاح النظام العالمي، ما لم يفتح النقاش بشأن القضايا الرئيسية، مثل أنظمة الصرف، والتدفق الحر للأموال عبر الحدود، وما لم يُدقّق في جدول أعمال التفاوض الدولي المتعلق بتحرير التجارة وبهيكلية منظمة التجارة العالمية نفسها.. وهذا لا يتوقع حصوله في ظل توزيع القوى الراهن في العالم.
* رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق

(1) الخريطة الإستراتيجية لعام 2020، مركز الدراسات الأمنية في الولايات المتحدة الأميركية.