نهر البارد | الأولاد والأطفال هم لبّ اعتصام اليوم في ساحة الشهداء. والأولاد والأطفال يفتقدون إلى بيوتهم التي دكّتها الحرب بين فتح الإسلام والجيش اللبناني. تفتقد العصافير موطئ قدمها، فتعيد رسمها، كما كان يفعل أهالي الكهوف، ولكن على كراتين تتحوّل لمجسمات بيوت ومدارس، كانت ذات يوم بيوتهم ومدارسهم. يحصر أحمد ديب (11عاماً) أسباب مشاركته في اعتصام اليوم بثلاثة:
تجسيد بيته الذي تهدم، تبيان موهبته والتأكيد أن الشعب الفلسطيني مسالم. فيما ينشغل أحمد عبد العال (13 سنة) باختيار ملصقات صغيرة من الورود والفراشات للصقها على مجسم المنزل الذي صنعه «بيتنا كان مليان ورد» يقول، ثم يقلب الكرتونة شارحاً «هون دار جدي»، يقلب لناحية أخرى «هون صديقي سابا». فكرة الورود أخذت نايف الخطيب نحو شكل المقابر، فقاطع رفيقه قائلاً: «هذه الوردة وضعتها لأن منزلك تهدّم... بس ما تنسى تسقيها بالميْ كل يوم»، يردف ساخراً. يصل عدد إضافي من الأولاد مع تقدم ساعات الظهيرة بعد خروجهم من مدارسهم. يقف محمود على مدخل القاعة متأبطاً حقيبته المدرسية باحثاً في عيون المشاركين عن نظرة يُترجمها بدعوة للاقتراب. يعي محمود أنه ليس بحاجة إلى دعوة، يقترب من إحدى الورشات الصغيرة بعدما أسقط حقيبته عن كتفيه متخلصاً من عبئها. أمسك محمود فرشاة الدهان مباشراً صنع منزله هو الآخر. فربما لن يتاح له أن يبني طوال حياته بيتاً حقيقياً في مخيمه. تطلب كل من المنشطتين دانية قاسم وغالية حسن من الأولاد أفكاراً لترجمتها على الكراتين. يعاجلهما غنّام إسماعيل بجواب سريع «أقسم الكرتونة لنصفين، الأول أرسم فيه منزلي قبل الحرب والآخر بعد الحرب». تنهّد إسماعيل طويلاً قبل مباشرته الرسم، والمحصلة بيت مرفوع عليه علم فلسطين تطلق عليه النار مجموعة من الجنود، ويقابل هؤلاء فلسطيني يحمل علم بلاده «هَيْ قصتنا»، يتمتم إسماعيل.
طٌلب من كل مخيم تشكيل لجنة إنضباط خاصة بجمهوره
خارج القاعة، تحوّل المخيم خلية نحل. قسّم منظمو الاعتصام أنفسهم إلى ست لجان. «لجنة الهتافات» مؤلفة من ثلاثة أشخاص، هم من يضع نص الهتافات التي ستردد خلال الاعتصام. تعمل اللجنة على حصر الهتافات بموضوع إعادة إعمار المخيم والمطالبة بالعيش بكرامة وإنسانية، تفادياً لأي إساءة يمكن أن يطلقها أحد المعتصمين «تعبيراً عن تنفيسة أو فشة خلق مش بوقتها». وتؤمن «لجنة النقليات» الباصات للمعتصمين عبر أربع نقاط موزعة حسب قطاعات السكن في المخيم. فيما جزأت «لجنة التعبئة» المؤلفة من 12 فرداً نشاطها إلى ست مجموعات، تتولى كل مجموعة منطقة محددة في سبيل تعبئة الأهالي وحثّهم على المشاركة الكثيفة لخطورة عدم الإعمار. وقد فرزت 37 جمعية عاملة في المخيم مجموعة من كوادرها، لتكون من عداد لجنة الانضباط، بالإضافة إلى التنسيق مع طلاب البارد الجامعيين في بيروت. ولقد طُلب من كل مخيم تأليف لجنة انضباط خاصة بجمهوره، مع التشديد على رفع العلمين الفلسطيني واللبناني فقط. يضاف لما تقدم لجنة لمتابعة التجهيزات وأخرى للإعلام، وفي إطار تحضيراتها جرى توزيع آلاف الدعوات للمشاركة في الاعتصام غطت البيوت كلها تقريباً تحت عنوان «في البارد بيتي، الإعمار الآن». للمخيم وسائل إعلامه: ميكروفون مركب على سيارة تجول الأزقة وتذيع الدعوة، إضافة إلى مكبرات الصوت في المساجد.
الحماسة المبثوثة في كل مكان زرناه هنا، تشير لمشاركة كثيفة، ويعوّل البعض على رمزية هذا التحرك الأخير قبل صدور قرار مجلس شورى الدولة الذي سيحدد على ضوء وضع آثار مدينة أرتوزيا المكتشفة حديثاً، مصير إعادة الإعمار. جديد التحرك؟ إن من نظمه هي هيئات مستقلة بعيدة عن الأحزاب والسياسة بمعناها الضيق. يُثني أبو خالد على تنظيم هذا التحرك الذي «يشجعني على المشاركة دون الدخول في متاهات الفصائل ومزايداتهم في حمل القضية على أكتافهم» كما يقول. بالمقابل يجزم جاره، أبو خالد، بحتمية مشاركته في الاعتصام "ما دامت الباصات مؤمنة وأنحس من هيك وضع ما في، حرام نضيّع تعب الشباب». من جهته، لم يدر أبو فاضل أن «القدر فيه من السخرية ما يكفي أجيالاً متعاقبة من الفلسطينيين» كما قال، ويضيف ساخراً «أنا متحمس للمشاركة في الاعتصام كحماستي في تظاهرات السبعينيات، إما التراجع أو البحث عن أي خطوة إلى الأمام حتى لو كانت في الفراغ!»، يقول أبو فاضل متحسراً. والتحسر تبدو السمة الأبرز بين أهالي البارد. تبدأ جملهم دائماً بكلمة «لوْ». فالجيل القديم يتحسّر على أيام النكسة وحتى أوسلو، أما الجيل الجديد الذي دأب على التظاهر والتضامن مع الداخل الفلسطيني حيث عمق القضية، فقد وجد نفسه يوزع منشوراً تلبيةً «لواجب مقدس» اسمه إعادة إعمار مخيم نهر البارد. تبدأ عبارات التحسر بعبارة «لو لم يأتوا بفتح الإسلام»، «لو لم يصب الجيش منزلنا» ولا تنتهي بعبارة «لو سكنّا في ... لو متنا».
«أم طه بلّشت تضيّع»، تغمغم فاطمة في وصف حال جارتها المسنّة التي لم تمر سنة في حياتها إلا ودُعيت لمسيرة أو اعتصام لأجل فلسطين «مش عمّا تميّز مشكلتنا وين صارت، الله وكيلك أنا مش عارفة كم تهجير وكم شهيد صاروا»، تتابع.


تتخوّف نوال الحسن، المسؤولة في هيئة المناصرة الأهلية لمخيّم نهر البارد من عرقلة سير الباصات. لذا اتّفق المنظّمون على أن تتجمّع الباصات قرب مستديرة نهر أبو علي، لتنطلق دفعة واحدة، وعندئذٍ إذا أُوقف أحدها يصبح توقّف جميع الباصات أمراً واقعاً وهذا ما تستبعده. وذكرت الحسن أن تغطية النفقات المالية تسدّد من تبرّعات أهالي مخيم البارد في الخارج، إضافةً إلى مليون ليرة لبنانية من جهة محلية تحفّظت على ذكرها، وذلك ضمن خطة طوارئ تصعيدية في حال عدم تجاوب السلطات اللبنانية